تونس: الواجهات البلورية.. موضة طاغية على الأبنية الجديدة

وسط اختلاف الآراء حول فلسفتها وحسناتها

واجهات بلورية تطغى على الجيل الجديد من الأبنية في تونس («الشرق الأوسط»)
TT

منذ اكتشف الإنسان المرآة وثبتها على جدار أمام عينيه، بدأ منذ ذلك المفصل الزمني يعيد اكتشاف نفسه. بل إن جانبا مهما من نرجسيته ظهر مع اكتشاف هيئته وملامحه ومقارنتها مع ملامح الآخرين.

البلور، ذلك المركب المرتبط بمكونات الرمل، وتحديدا السليكون، تطور استعماله بمرور الزمن. وبعدما كان استعماله في البداية مقصورا على المرآة العائلية في بيوت الاستحمام والحمامات العمومية، تطورت استعمالاته الكثيرة لتدخل أبواب المقاهي والنزل، وكذلك السيارات وشتى أنواع المركبات، بل ومختلف أوجه الحياة.. حتى إن الإنسان ليتخيل له أنه يفقد الكثير في حالة عدم الرجوع إلى المرآة التي تبعث فيه ثقة في النفس وتعزز حضوره في المجتمع.

وفي قطاع البناء، لا سيما في تونس، سجل استعمال البلور تطورا ونموا كبيرين. وبعدما كان يستعان بالبلور حصرا، تقريبا، على النوافذ وبيوت الاستحمام وغرف النوم.. تغير الحال. واقتحم بقوة كل مناحي التصاميم المعمارية، وفي مختلف مواقع المساكن والمكاتب والمؤسسات.

في تونس، وربما في بلدان أخرى، حدثت ثورة في فلسفة تصميم المباني الجديدة. وانقلبت رأسا على عقب مقاييس كثيرة للبناء، بعضها كان من المسلمات، وزحف استعمال البلور بصورة لافتة على الأبنية المسلحة بالآجر والإسمنت والحديد، وهناك آخر يطل بألوان زاهية وانعكاسات مبهرة. وبالتالي، ما عادت «المرآة» مجرد رقعة محدودة المساحة، ملاصقة لجدار، أو تحتل حيزا صغيرا في بيت كبير.. بل غدت في بعض المباني واجهة للبيت كله.

هل تتعلق هذه الظاهرة بالرفاهية والسعي لمزيد من الضوء يغمر البيت أو المكتب، أم أنها أصبحت رغبة البعض في إرسال رسالة على الملأ تشير إلى توافر الإمكانيات المادية؟ هل هي قضية نفسية تنم عن حب للانفتاح والشفافية.. أم هي مجرد حسابات اقتصادية، خالية من الاعتبارات السيكولوجية والجمالية والذوقية؟

السائر في ضواحي العاصمة التونسية تونس، والمتأمل في الأبنية الجديدة التي ستصبح بعد حين مقار اجتماعية لكبرى المؤسسات الاقتصادية، أو عمارات للسكن الجماعي ولاستعمالات المكاتب التجارية المختلفة، يلحظ التطور الهائل الذي طرأ على تصاميمها والمواد المستخدمة فيها خلال السنوات القليلة الماضية. وفي مقدمة ما يلفت النظر سيطرة البلور على معظم واجهات هذه الأبنية، في ما يبدو وكأنه منافسة غير معلنة بين تلك المؤسسات.. أو سيرها في منهج تصميمي واحد أجمع عليه المهندسون المعماريون وأصحاب المشاريع السكنية الكبرى، في آن.

عشرات المؤسسات اعتمدت الواجهات البلورية، من مختلف الألوان، في ما هو غير شفاف منها، مما أضفى ظلالا هائلة على طرقات العاصمة وضواحيها.

حول هذه الأبنية الجديدة المعتمدة على البلور، يقول زكريا بن عمر، وهو مهندس معماري «إن لجوء المهندسين في تصاميمهم المعمارية إلى البلور له محاسن كثيرة على مستوى البنايات ككل. فهو يعطي قيمة مضاعفة لتلك الأبنية ويحسن من مظهرها الخارجي ويضيف لسعرها الكثير». وتابع «كما أن عمليات التنفيذ، بالمقارنة مع الواجهات التقليدية، قد تكون أبسط بمرور الوقت، ذلك أن عمليات صيانة البلور أقل كلفة من صيانة الواجهات الإسمنتية التي تتطلب بعد مدة وجيزة إعادة دهنها، في حين لا يحتاج البلور إلا إلى كميات ضئيلة من الماء لإعادته إلى حالته الطبيعية».

وأضاف بن عمر، شارحا «إن تصاميم البناء تتطور، والهندسة المعمارية في تونس تسعى بدورها إلى مواكبة هذه التطورات المتجهة، على وجه العموم، نحو الخلط بين المواد المختلفة في البناء وتحاشي الاكتفاء بمادة وحيدة. وهذا الخلط والأخذ بكل شيء من طرف قد يكون سر نجاح تلك الواجهات وجلبها للنظار». غير أنه نبه، من ناحية أخرى، إلى الانعكاسات السلبية الممكنة لتلك الواجهات البلورية على اقتصاد الطاقة باعتبار إمكانية تحول الكثير منها، ما لم يراع مهندسوها ومالكوها الشروط البيئية في البناء، إلى ما يشبه «البيوت البلاستيكية المكيفة» التي تتطلب الكثير من عمليات التبريد صيفا والتسخين شتاء للمحافظة على توازنها الطبيعي.

من جهة ثانية، قال سعيدان المعلاوي، وهو مقاول بناء «إن اللجوء إلى الواجهات البلورية قد يكون أكثر كلفة من أكثر من جهة، والبلور معرض دائما للكسر لأبسط الأسباب، وذلك بخلاف المواد الأخرى التقليدية. لكن مع هذا، يلبي مقاولو البناء والمتعهدون في تنفيذهم تصاميم الأبنية رغبات الأطراف المعنية، مباشرة، كالجهة المالكة والمهندس. وهم وإن كانوا يحاولون أيضا مواكبة التطورات الحاصلة فإنهم في الواقع لا يفضلون طريقة على أخرى، وكل طريقة تنفيذ لها ثمنها».

أما الحبيب بن حسين، وهو عامل بناء، فقال «إن اللجوء إلى البلور قد يعكس الكثير من رهافة الحس، وهو يكاد يخطف الأبصار كلما مررت بجانبه، إلا أن هذا الجانب الجميل والمشرق لا يخفي صعوبات عملية كبيرة في تنفيذ تلك الواجهات البلورية، بالمقارنة مع الواجهات الإسمنتية الكالحة». وتابع بن حسين «لعل الغاية من هذه الواجهات البلورية الإعلان عن الرفاه الاجتماعي لأصحاب تلك المشاريع.. فمن ينفذها يعتبر نفسه متميزا عن الآخرين، وهذا الاختلاف ربما يكون من بين دوافع اللجوء إلى البلور في هذه الأبنية الجديدة».