«العم أبو أيمن»..آخر مصلحي «بوابير الجاز» في الشام

زبائنه يأتونه من كل أنحاء سورية.. ومن الأردن ولبنان

TT

في عصر المبتكرات الإلكترونية والكهربائية التي تأتي إلى الأسواق السورية مباشرة بعد تصميمها وابتكارها، وعلى الرغم من استخدام أحدث ما توصل إليه العلم في مجال طهو الطعام وتسخينه؛ من مواقد الغاز وحتى الكهرباء والأشعة عبر الميكرويف وغيرها... لا تزال ثمة «قلاع» حرفية تقليدية صامدة في وجه مرور الزمن.

نعم، في وجه هذه «الثورة العلمية والتقنية» لا يزال ثمة أناس في العاصمة السورية دمشق وريفها، وكذلك في مناطق أخرى من سورية وبلاد الشام، يستخدمون «بابور (وابور) الجاز»، تلك الوسيلة الشهيرة في طهو الطعام وغلي ماء الغسيل وخلافه من حاجات سيدة البيت. ويستخدم الجاز (الكيروسين) في هذه «البوابير» - كما يدل اسمها - كمادة احتراق توضع في جهاز يأخذ شكلا مميزا ويعمل بطريقة يدوية من خلال النفخ والضرب والنكش حتى يتوهج رأسه وتصبح ناره زرقاء اللون، ومن ثم يوضع عليه الوعاء من أجل الطهو أو تحضير كأس شاي وفنجان قهوة، وإذا كان «البابور» من الحجم الأكبر يُغلى عليه في قدور أكبر ماء الاستحمام في بعض الأرياف.

بفضل ولاء هؤلاء وغيرهم لهذه الأدوات شبه المنقرضة في حياتهم اليومية من «بوابير جاز» وفوانيس، لا يزال العم «أبو أيمن» يحيى حرب، الذي يلامس الثمانين من العمر، يعمل بهمة ونشاط.

العم «أبو أيمن» (77 سنة)، يعمل في مهنة تصليح وصيانة «البوابير» والفوانيس من دكانه القديم في إحدى مناطق «دمشق القديمة»، وهو يصرّ على أن لا يتركها مهما كان مردودها المادي ضعيفا. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، تحدث «أبو أيمن» عن مهنته وكيف شق طريقه فيها بعدما ورثها عن أبيه وأجداده، فقال: «أعمل في هذه المهنة منذ 65 سنة، وحاليا لم يعد هناك من يعمل بها في الشام سوى كل طويل عمر(!). كانت هذه المهنة في القرن الماضي من المهن المهمة... وكان «البوابيري» مدللا لدى الناس الذين كانوا بأمس الحاجة إليه، ولذا يرجونه ليسرع في إصلاح «بوابيرهم» حتى يتمكنوا من طهو الطعام عليها. وكان لا يخلو شارع أو حي دمشقي من «مصلّح بوابير»، لكن الحال اختلف في العصر الحالي ولم يعد أحد يعمل على «بوابير الجاز» باستثناء بعض كبار السن والأشخاص الهواة من (أصحاب المراق) الذين ما زالوا يحبون الحفاظ على التراث». وتابع: «تصوّر، هناك من زبائني من يقول لي إذا لم أسمع كل يوم موسيقى (البابور) أشعر بالانزعاج؟!!».

ويضحك «أبو أيمن» وهو يفسر «مراق» (ذوق أو مزاج) هؤلاء قائلا: «إن طريقة استخدام (بابور الجاز) تقتضي من الشخص إدخال أداة رفيعة مع جلدة لنفخ الجاز داخل خزانه الصغير حتى يصعد لرأسه ويلتقط النار من عود الثقاب، وعملية الضرب والنفخ هذه قد تستمر لدقائق وتأخذ صوتا مميزا يستهوي هؤلاء... فيطلقون عليه مسمى (موسيقى بابور الجاز) ويعتبرونها موسيقى جميلة!».

ومن زبائن «أبو أيمن» أيضا أشخاص يريدون تزيين منازلهم بـ«بابور كاز» لتذكر الماضي الجميل فيشترونه كقطعة أنتيكا أو يرثونه عن أسرتهم ويكون بحاجة لصيانة، فالعم «أبو أيمن» سيكون مقصدهم بالتأكيد، فهو الوحيد في الشام الذي ما زال يصلح «بوابير»، ولذلك - كما يوضح - فإن زبائنه لا يأتونه فقط من سورية، بل من البلدان المجاورة كلبنان والأردن. وكل هؤلاء يسمعون به ويأتون بـ«بوابيرهم» لصيانتها عنده، مع ملاحظة أن غالبية هؤلاء من أصحاب المنشآت السياحية التراثية كالفنادق والمطاعم وأصحاب الفيلات الذين يهمهم إبراز التراث في فيلاتهم.

أيضا، من زبائن «أبو أيمن» سكان الريف الذين ما زالوا يستخدمون «البابور» في الطهو، كما يستخدمون الفانوس في تنقلاتهم بمزارعهم ليلا لكي ينير لهم الطريق والمكان.

وسألت «أبو أيمن»: لماذا إصراره على هذه المهنة على الرغم من انقراض مفرداتها ومستخدميها؟ فأجاب: «معك حق، فقد يمضي أسبوع كامل ولا يأتيني زبون... لكنها معي أصبحت هواية أكثر منها مهنة أو حرفة، ولكي أتمكن من تحقيق الحد الأدنى من الدخل المقبول صرت أصلح أيضا الآراكيل (الشيشة)... وهذه لها زبائن من أصحاب المقاهي ومتناولي الآراكيل الكثر». ويبتسم «أبو أيمن» وهو يتذكر قبل سنوات كيف جاء إلى دكانه الفنان الكوميدي السوري المعروف ياسر العظمة وصوّر لوحة كاملة من سلسلة «مراياه» الكوميدية داخل الدكان، وقلّده في تصليح «البوابير» ولبس ثياب العمل الخاصة به، وأردف: «ولكن العظمة كان يغني وهو يقلدني - يقول (أبو أيمن) - بينما أنا لا أجيد الغناء... وصوتي ليس جميلا كصوت الفنان ياسر».

ويعود «أبو أيمن» بذاكرته إلى خمسين سنة مضت، وكيف كان حال «بوابير الجاز» ومصنعيها ومصلّحيها وتجارها، إذ انتشرت في سورية حينذاك معامل كثيرة لتصنيع «البابور» وتصنيع كل أقسامه وبشكل متخصص... حتى صارت تنافس «البوابير» المصنعة في السويد، فـ(البابور) السويدي (البريموس) كان له عزّه وشهرته في كل دول العالم».

ويبتسم «أبو أيمن» من جديد وهو يروي تاريخ وتراث «بابور الكاز»، ويضيف: «أيضا انتشرت موديلات وأحجام للبوابير فاشتهرت أربعة موديلات منه وهي ذو الحجم الصغير، وكان يوضع داخل علبة خاصة ويستخدم لأغراض بسيطة كتحضير أبريق شاي ودلّة قهوة وتسخين أبريق متة وكان رفيق السوريين في نزهاتهم وسيراناتهم، وهناك الأحجام الأكبر التي تتحمل وضع طناجر الطبخ عليها، وتلك الضخمة التي كانت توضع عليها حلات سلق القمح والبراميل المعدنية لغلي الماء وغير ذلك، وكان «البابور» يضنف من خلال مقاساته ونمره، وهي أربع نمر: زيرو و1 و2 و3. كما أن تجارته انتشرت في منتصف القرن الماضي بشكل واسع، وخاصة، في سوق العصرونية بجوار سوق الحميدية. وصار هناك بائعون متخصصون ببيع مكوناته مثل الجلدة والرأس والرقبة والغطاء والنكاشة. وكانت المصانع تتنافس على تصنيع الأجود من أقسامه، حيث هناك مثلا معامل تصنّع أرجل (البابور) فقط وتخرطها بشكل فني، وأذكر أن معملا في دمشق كان يصنع في الشهر اليوم الواحد ألف طقم أرجل لـ(البابور)، وكان صاحبه يوزعها لمصانع البوابير. غير أن هذه المعامل أقفلت الآن مع انقراض استخدام (البابور) وتحول البعض منها لتصنيع مواقد الغاز والكهرباء وغيرها».

ويتابع «أبو أيمن» مشواره مع الذكريات فيقول: «وكان لاستخدام (البابور) أسلوب يحتاج لنوع من المهارة والتعود من قبل المرأة والرجل والصبر عليه... ففي البداية، نفتح غطاء خزانه الدائري ونعبأه بالجاز من خلال المحكل (القمع) حتى يمتلئ تماما، وبعد ذلك نأتي بالمنفاخ وندق (البابور) من فتحة الخزان فيصدر صوت قرع، وتستمر العملية لفترة من الوقت حتى يخرج الجاز إلى الجرن في رقبة (البابور). وعند امتلاء الجرن، نفتح النفاثة فيتوقف صعود الجاز ونقوم بتحمية الرأس بشكل جيد ومن ثم ندقّه مرة ثانية ونغلق الخزان... وحينها يكون رأس (البابور) قد اشتعل. وكلما دققنا أكثر كلما قويت نار (البابور) وسرعنا عملية الطهو. وعند انتهاء الطهو، يصار إلى إطفاء (البابور) عبر تنفيسه وتركه ليبرد».