آلة البزق.. احتفت بها دمشق على امتداد 3 أيام

إحدى أروع الآلات الموسيقية الشرقية

من ملتقى البزق الأول بدار الأوبرا بدمشق
TT

عُرفت الآلات الموسيقية الوترية في منطقة الشرق الأوسط وعدد من بلاد المشرق منذ القدم. وقد ظهرت في مختلف أشكالها وأحجامها في صور منحوتة، وكذلك في الوثائق التاريخية، والكتب التراثية. والمعروف أن الإنسان عرف العزف على ثلاثة أنواع أساسية من الآلات هي: الآلات الوترية، والآلات النفخية، والآلات الإيقاعية.

واليوم من أشهر الآلات الوترية: العود والقانون والبزق والغيتار والبانجو والسنتور الإيراني والسيتار الهندي والبلالايكا الروسية، بجانب الكمان والربابة. وخلال أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وعلى امتداد ثلاثة أيام، احتضنت دار الأوبرا السورية في العاصمة دمشق «ملتقى البزق الأول» بمشاركة 12 عازف بزق ينتمون إلى أجيال مختلفة، بهدف إنهاض التذوق الموسيقي الشرقي، والمحافظة على التراث الشرقي.

البزق، لمن لا يعرفها، هي تلك الآلة الموسيقية الشرقية البسيطة بمظهرها، الساحرة بأوتارها ونغماتها، لا سيما عندما تداعب الأوتار أنامل عازفين متمكنين. وقد اشتهر من هؤلاء على مر السنين عدد من العازفين الموهوبين، على رأسهم جميعا «أمير البزق» محمد عبد الكريم، الذي توفي في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، إلى جانب عاصي الرحباني، ثم مطر محمد ومالك بجاني. أما ألمع عازفي البزق حاليا فهو سعيد يوسف.

تاريخيا، تحتل هذه الآلة مكانة مميزة في المنطقتين الشمالية والشرقية من سورية والمنطقة الغربية من العراق، وتلعب دورا بارزا وراء الألحان التراثية ذات الطابع البدوي والريفي. إلا أنها أُدخلت بقوة خلال العقود الأخيرة إلى عدد من الأعمال الفنية المعاصرة، وكان من رواد من أحبها وروج لها ولحن مستعينا بها الموسيقار والفنان اللبناني زياد الرحباني في عدد من أعماله.

وللبزق، التي تصنع من الخشب، تقريبا شكل العود الصغير؛ إذ تضم الجسم - أو القصعة - المتصل بزند أو ساق طويلة جدا بالمقارنة مع جسم الآلة. وتشبه البزق آلتين موسيقيتين أخريان هما «الطنبورة» و«الباغملة»، مع بعض الاختلافات. أما عدد أوتار البزق فهو عادة وتران مزدوجان (4) أو 3 أوتار مزدوجة (6). وتشير بعض الوثائق إلى أن أصل اسم البزق كردي، وهو «بزك» الذي يعني: «ذو بطن بارز». ومن الاسم الكردي انتشرت التسمية وتحورت فباتت «بزق» بالعربية و«بزوق» بالتركية و«بوزوكي» باليونانية.

أما عن «ملتقى البزق الأول»، فشهد، عبر أيامه الثلاثة، أمسيات رائعة عُزفت فيها ألحان في غاية الجمال أسعدت الحاضرين وأسرتهم. وكان مسك الختام حقا الأمسية الختامية التي أحياها «أمير البزق الحالي» سعيد يوسف، وكان محمد عبد الكريم قد أوصى ليوسف من بعده ليس فقط بلقب «الإمارة» بل آلة البزق الخاصة به أيضا. وجاء في كلمة التقديم التي ألقتها الدكتورة حنان قصاب حسن، مديرة دار الأوبرا السورية، قولها: «أن تعزف آلة البزق على مسارح أوبرا دمشق يعني أن هذه الآلة، وأخواتها من العائلة نفسها - الطنبورة والباغملة - تستحق أن تكرس كآلة عظيمة، وأن تؤلف لها المقطوعات وتقدم في المهرجانات».

أما منظم الحدث وصاحب فكرة إطلاقه، وهو الإعلامي السوري إدريس مراد، فقال لـ«الشرق الأوسط» عن هذا «الملتقى» وعن معنى الاحتفاء بآلة موسيقية تراثية والهدف منه: «من المعروف أن منطقة الجزيرة السورية هي أشهر المناطق السورية التي ينتشر فيها استخدام آلة البزق في الغناء. وهي آلة جميلة تجذب المتلقي بطريقة رائعة، وكان لا بد من الاحتفاء بها للمحافظة عليها، خاصة أن أشهر موسيقيي العالم اعتمدوا على تراث بلدانهم الموسيقي لإبداع معزوفاتهم التي صارت عالمية».

وتابع: «منذ ثلاث سنوات وأنا أفكر بطريقة لتنظيم هذا (الملتقى)، ولقد التقيت بالفعل لهذه الغاية عددا من عازفي البزق، إلى أن أتيحت لي أخيرا الفرصة لإقامته في دار الأوبرا السورية. وقد رحبت مديرتها بالفكرة، وهكذا انطلق (الملتقى الأول للبزق) بمشاركة 12 عازفا أغلبهم من فئة الشباب؛ إذ لا تتجاوز أعمارهم 35 سنة، ثم إننا نظمنا أمسيات الملتقى بشكل يسمح بالتنوع الموسيقي ووجود الآلات الثلاث الشقيقات (البزق والطنبورة والباغملة). وكما لاحظت، فإن الجمهور استمع لأساليب موسيقية متنوعة ومختلفة.. حتى إن أحد العازفين الشباب قدم مقطوعات من التراث اليوناني، بينما قدم آخرون معزوفات فيها إبداع واضح، ومنهم من لا يقرأ نوتة موسيقية، لكن لديه أحاسيس قوية وعزفا جميلا ومهارات جيدة».

ثم أضاف: «وقدم بعض العازفين معزوفات معروفة، مقلدين الموسيقي سعيد يوسف ومستفيدين من مدرسته في العزف، وأحد المشاركين (زعيم كندش) عزف موسيقى النينوى وكان مبدعا فيها، خاصة أنها تحتاج لعزفها في أمسيات تخت شرقي موسيقي كامل أو أوركسترا. وهناك عازف (رامان أوسمان) عزف من معزوفات خاصة به. وفي اليوم الثاني من الملتقى كان هناك تميز من عازفين أدوا معزوفاتهم بشكل ثنائي ولمدة ربع ساعة مستخدمين آلتي الباغملة والطنبورة. في حين أن هناك موسيقيين من خريجي المعهد العالي للموسيقى عزفوا مما تعلموه في المعهد، خاصة تلك المعزوفات التي تنتمي إلى المدرسة الموسيقية الأذربيجانية، وذلك بسبب وجود مدرس أذربيجاني في المعهد يدرس آلة البزق اسمه علي عسكر أكبر».

ومن ثم أوضح مراد أن «الهدف من الملتقى ليس فقط الحفاظ على هذه الآلة، بل إظهار عازفين سوريين مغمورين يتمتعون بمواهب رائعة، حتى إن لم يدرسوا الموسيقى بطريقة أكاديمية، بل تعلموا العزف على البزق بالفطرة والمتابعة. وللعلم، البزق، كآلة، تتطلب من العازف تعلمها من الصغر في سن الطفولة، وليس في المعاهد الموسيقية؛ فالموسيقى الشرقية، بشكل عام، موسيقى سماعية وانتقلت عبر الأسلوب الشفاهي».

وعن نجاح المهرجان وأمسية الختام، قال مراد: «الحقيقة أن المهرجان كان ناجحا بكل المقاييس ولم أكن أتوقع له هذا النجاح كله، لا سيما أنه لأول مرة تجتمع الآلات الموسيقية التراثية الثلاث على مسرح واحد وفي أمسية واحدة. وحقا كان مسك ختام (الملتقى) مع (أمير البزق) سعيد يوسف، الذي أحيا أمسية الختام وحده لحوالي الساعة وربع الساعة، وقدم خلالها أجمل المقطوعات التي جعلت الجمهور في حالة من الانسجام التام مع معزوفاته».

أما يوسف فقال لـ«الشرق الأوسط» عن أمسيته الختامية وعن الملتقى: «البزق آلة شعبية فطرية جميلة ومطربة وقديمة، إلا أنها للأسف كانت في السنوات السابقة مغيبة إعلاميا.. ولا أدري أسباب ذلك، ولكن جاء هذا (الملتقى)، وهو حدث لافت للانتباه، ليعيد تسليط الضوء عليها، وهذه خطوة مهمة للحفاظ على هذه الآلة الموسيقية التراثية، التي هي عضو فعال في التخت الشرقي، وتحمل وترين متكاملين.. ويعني ذلك أنها كآلة شرقية يمكنها بمفردها أن تحيي سهرة فنية.. وحتى السهرات الراقصة التي تتضمن دبكات».