تونس: الدروس الخصوصية تسبب «وجع الرأس»

بعض العائلات تضطر إلى الاقتراض من البنوك لتوفير الميزانية الكافية

مجموعة من تلاميذ التعليم الابتدائي أثناء مراجعة الدروس
TT

سيطرت فكرة الاستعانة بالدروس الخصوصية على العائلات التونسية التي باتت لا تدخر جهدا لضخ معلومات ومعطيات لفائدة أبنائها، على الرغم من أنها ترى في هذه الدروس إجحافا لها ولأبنائها، لكنها في المقابل تتزاحم أمام مكاتب المدرسين من مختلف المستويات من أجل الفوز بخدماتهم.

تضحي العائلات بالكثير من مداخيلها الشهرية من أجل رفع مستوى أبنائها ودفعهم نحو الحصول على مستويات تعليمية تكفل لهم الالتحاق ببعض الوظائف المتوسطة أو المشاركة في صفوف الجيش والشرطة والحماية المدنية وغيرها من الوظائف الحكومية التي تتحكم فيها المستويات التعليمية والتي من دونها يصبحون فريسة للبطالة. وتحظى بعض الاختصاصات العلمية بحظوة خاصة لدى أولياء الأمور، وذلك على غرار مادتي الفيزياء والرياضيات وبعض المواد العلمية الأخرى التي تعرف في صفوف التلاميذ بارتفاع ضواربها وتأثيرها المباشر على المعدلات السنوية.

ومع بداية السنة الدراسية تنطلق هذه «الحمى» على حد تعبير بعض الأولياء، بما يجعل الدروس الخصوصية بمثابة المدرسة الموازية القائمة بذاتها، وهو ما أرسى ثقافة كاملة أطلق عليها المختصون «ثقافة الدروس الخصوصية».

وهذا بدوره جعل المدرسين موضع اتهام، وهم الذين غالبا ما يسدون دروسا خصوصية لنفس التلاميذ الذين يدرسونهم لكن هذه المرة مقابل مبلغ مادي. لكن بعض رجال التعليم يتحججون بضغط البرامج التعليمية من ناحية وبكثرة إعداد التلاميذ في القسم الواحد (بعض المدارس الابتدائية بضواحي العاصمة يتكون الفصل الواحد فيها من 42 تلميذا)، وهو ما يجعل العناية بذاك الكم الهائل من التلاميذ والتركيز معهم غير ممكن، وهذا ما يمكن تعويضه ببعض دروس الدعم.

وزارة التربية التونسية تمنع الدروس الخصوصية من الناحية القانونية، لكن الظاهرة يبدو أنها أقوى منها، بحيث لم تستطع عمليا منع هذه الظاهرة، بل حاولت تطويقها وذلك بفتح قاعات المدارس أمام الأساتذة والمعلمين من أجل تقديم ما تسميه «دروس الدعم»، لكن عن طريق منظمة التربية والأسرة التي تحاول إنصاف بعض العائلات الفقيرة، وذلك بجعل سعر الدروس في الشهر لا يتجاوز حدود 15 دينارا تونسيا (قرابة 10 دولارات أميركية). وتتمتع المدرسة بنصيب من تلك المداخيل، كما تتمتع المنظمة نفسها بنصيب منها، ويبقى قسط ثالث يذهب إلى الإطار التربوي.

وإذا كانت النقابة العامة للتعليم الابتدائي والنقابة العامة للتعليم الثانوي في واقع الحال قد جاهرتا بمواقفهما علنا في عقد الثمانينات والتسعينات، واعتبرتا في تلك الفترة الأساتذة والمعلمين الذين يقدمون دروسا خصوصية بمقابل مخلين بأخلاقيات مهنة التدريس، فإنهما في الوقت الحاضر لا تبديان الكثير من الاهتمام، وتغضان الطرف عن تلك الممارسات التي يرى الكثير من المتابعين للنظام التربوي في تونس أنها أضرت كثيرا بسمعة الإطار التربوي.. كما أنها أفرزت بعض مظاهر المحاباة مع بعض التلاميذ الذين لا يستحقون مثل تلك المعدلات، كما أنها أثرت سلبيا على المستوى التعليمي العام، إذ إن نتائج تلك «الدماء الفاسدة» التي يتم ضخها بصفة قسرية أن ظاهرة الدروس الخصوصية قد امتدت إلى أروقة الجامعة التونسية وهو ما لم يكن موجودا في السابق.

عن هذه الظاهرة الاجتماعية قال أبو القاسم حسن (أستاذ تعليم ثانوي ونقابي) إن «الدروس الخصوصية ظاهرة رافقت مدرسة اليوم، إذ إنها كانت مختفية تماما في العقود الماضية، وكانت الإطارات التربوية من معلمين وأساتذة لا يفكرون فيها من حيث المبدأ، لكن الوضع تغير في الوقت الحالي، وأصبحت هذه الدروس بمثابة الشر الذي لا بد منه». ويضيف حسن أن الإدارة تشترط في كل الأحوال إعلامها باعتزام تقديم دروس الخصوصية، أو ما تطلق عليه تسمية حصص التدارك، كما تشترط ألا يقدم المعلم أو الأستاذ دروسا مدفوعة الأجر للتلاميذ الذين يدرسهم في نفس المؤسسة التربوية، هذا إلى جانب تهيئة فضاء يراعي الشروط الصحية لاستقبال التلاميذ. ويذكر حسن أنه ينتقل إلى منازل تلاميذه ويقدم لهم الدروس مجانا.

ويرى شفيق الماكني (معلم لغة فرنسية في المدارس الابتدائية) أن الظاهرة استفحلت وأصبحت بمثابة السوس الذي انتشر في كامل الجسد التربوي، وهو ما يؤثر غالبا على المستويات التعليمية، حيث يلاحظ الجميع أن حصص التدارك ودروس التقوية امتدت في الوقت الحاضر إلى المؤسسات الجامعية، وهو ما لم يكن موجودا في السنوات السابقة. ويذكر شفيق، الذي يمارس المهنة منذ 27 سنة، أن المعلمين والأساتذة كانوا يقدمون دروسا مجانية لجميع تلاميذهم، وهو ما يذكره الكثير من الإطارات التربوية عن أساتذتهم إلى حد الآن. ويعبر الماكني عن موقفه بكل اعتزاز قائلا «لم أقدم طوال حياتي المهنية دروسا خصوصية بمقابل، وما زلت أبذل قصارى جهدي لإبلاغ رسالتي إلى أبنائي الصغار، وفي ذلك أبلغ رسالة».

وعن هذه الظاهرة قال صلاح البوجبلي (له ثلاثة أبناء يدرسون) إن دروس التدارك ليست إجبارية في نهاية المطاف، وهي في متناول «من استطاع لها سبيلا» على حد تعبيره. ويرى البوجبلي أن هذه الدروس قد أعادت الطبقات الاجتماعية والتفرقة بين العائلات من جديد، إذ من الصعب على رب العائلة أن ينفق على العائلة ويوفر نفقات قد تصل في بعض الاختصاصات العلمية إلى حدود 150 دينارا تونسيا (قرابة 100 دولار أميركي) على الأقل شهريا ليقرب أبناءه من المستوى التعليمي العام.

وتعتبر نبيلة الشواشي (إطار صحي) من ناحيتها أن ظاهرة الدروس الخصوصية لم تعد حكرا على العائلات الميسورة، بل أصبحت ضرورة ملحة على كل العائلات حتى يحافظ جميع التلاميذ على مبدأ تكافؤ الفرص، إذ إن اللجوء إلى تلك الدروس والاعتماد على الكتب التربوية الموازية يخلقان في القسم الواحد من التعليم مستويات متنافرة، وهو ما يجعل الممتازين من التلاميذ هم الذين يحظون بالعناية الكاملة من الإطار التربوي، ويجد بقية التلاميذ خارج دائرة الاهتمام. وتضيف الشواشي أن بعض العائلات وصلت حدود الاقتراض من البنوك لتوفير الميزانية الكافية للإنفاق على أبنائها، وهو ما لم يكن موجودا خلال العقود الماضية.