رسامو الشوارع في المدن السورية إلى تناقص

بعضهم صمد وظل يعمل على الأرصفة وفي الأسواق القديمة حيث يوجد السياح

عبد الهادي محايري، رسام شوارع في دمشق منذ 30 عاما يرفض ترك سوق الصالحية
TT

«قبل 15 عاما كانت التجربة رائعة، حتى إنها خدمت السياحة والثقافة والفن والفنانين جميعا في دمشق، ولكن للأسف انتهت، ودون رجعة!».. يقول حسام وهو يتأوه بحسرة قاصدا التجربة التي عاشها «رسامو الشوارع» أواسط تسعينات القرن الماضي، حين خصصت لهم محافظة دمشق أكشاكا وسط سوق الصالحية الشهيرة في المنطقة المسماة بـ«جادة الشهداء». ولكن التجربة انتهت بعد سنوات ثلاث فقط ولمبررات كثيرة قدمتها المحافظة آنذاك، ليتسبب ذلك في تناقص أعدادهم في دمشق، بحيث أصبح لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.

وتحول بعض هؤلاء الرسامين إلى العمل على أرصفة الصالحية ومنهم من توجه إلى مناطق دمشق قرب الجامع الأموي وفي أسواق القباقبية والنوفرة وساروجة، وغيرها، حيث يكثر في هذه المناطق السياح العرب الباحثون عن أماكن تراثية يتجولون فيها بعيدا عن صخب الأسواق الحديثة وضجيج سياراتها.

عبد الهادي محايري، أحد الرسامين الذين ظلوا في سوق الصالحية، مفضلا أرصفتها ودكاكينها للعمل، ناظرا كل يوم وبحنين إلى تجربة التسعينات ماثلة أمامه، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «رسامو الشوارع موجودون في الكثير من المدن السورية الكبيرة كحلب واللاذقية وحمص وليس فقط في دمشق، ولكن عددهم أقل بكثير في تلك المدن، والبعض يعتبرنا رسامين هواة أو متطفلين على الفن التشكيلي والرسم، ولكن أقول لك بصدق إن معظمنا درس الفن أكاديميا، فأنا مثلا خريج (مركز أدهم إسماعيل للفن التشكيلي) بدمشق منذ ثلاثين عاما وشاركت في أربعة معارض فنية داخل وخارج سورية ولكن حبنا للعمل في الهواء الطلق حيث يوجد الناس والحاجة إلى دخل مادي مقبول جعلنا نختار الشوارع والأرصفة لنرسم عليها أعمالنا. ونقوم بالرسم بناء على طلب العابرين الراغبين في رسم بورتريه لوجوههم أو لوجوه أقربائهم وأحبائهم فيأتون بصورة فوتوغرافية نعمل على رسمها بقلم الرصاص الغامق أو الفحم». ويمضي محايري في حديثه: «أرسم إضافة إلى البورتريه أعمالا دمشقية لمعالم وأوابد دمشق التاريخية والسياحية والتراثية التي يشتريها بشكل خاص السياح ويأخذونها معهم لتظل ذكرى من رحلتهم السياحية في دمشق».

ويبرر محايري اعتماده على الرسم في الشوارع عن التفرغ للفن في الصالات التي تنتشر بكثرة حاليا في دمشق والمدن السورية الأخرى رغم ما تقدمه هذه الصالات والمعارض من شهرة ووجود للفنان على الساحة الثقافية المحلية، قائلا إن المعارض في هذه الصالات لا توفر دخلا ماديا يستطيع الفنان أن يعيش منه بشكل جيد، ويضيف أنه وجد في عمله الحالي أن التواصل مع الجمهور بشكل مباشر أفضل، وأنه يلقى التشجيع من الكثيرين، «فالزبائن هنا هم من يشهروننا ويعملون على الدعاية لنا».

ويضيف محايري: «زبائننا ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع، منهم من يرغب في رسم لوحة وجه لوالده المتوفى أو لخطيبته، أو بالعكس شابة لخطيبها لتبقى ذكرى لما بعد الزواج وهكذا». ومن المواقف الطريفة التي حصلت مع محايري أن أحد الأشخاص، وهو كبير في السن يتجاوز السبعين من العمر جاء بصورة لوالده يريد أن يرسمه له، وبالفعل رسمها وعندما جاء ليتسلمها في اليوم التالي أخرج مسطرة من حقيبة يحملها وبدأ في قياس الوجه والشوارب والجبهة وغيرها على اللوحة المرسومة وصار يحسبها بمعادلة رياضية، قائلا إنه يوجد فرق ربع ملليمتر في الفم ومثله في الشارب، وغير ذلك! وأوضح أنه يريد أن يتأكد من المقياس أن هذا فعلا يشبه والده تماما أم لا.

ويستطرد محايري قائلا: «من المواقف الطريفة أيضا أن أحد السياح الخليجيين يأتي في صيف كل عام إلى دمشق للسياحة، ومنذ عام 1990 قصدني لأرسمه وصار يكرر الزيارة كل عام وأرسمه في كل زيارة، قائلا لي إن منزله حوله إلى معرض للوحاتي التي رسمتها لوجهه، حيث صار لديه عشرون لوحة بتواريخ سنوية متتالية وعليها توقيعي، وفي أحد الأعوام جاء ومعه 21 صورة شخصية لأصدقائه وأقاربه طلب مني رسمها ليقدمها هدية لهم حين يعود إلى بلده، فأجبته بأنه من المستحيل أن تنتج لدينا رسمة مطابقة تماما لأبعاد الوجه الحقيقي للشخص المرسوم، فالرسم هنا يدويا، وليس نسخا (كوبي)!.. وشرحت له كيف أن عشرة إخوة من أسرة واحدة جاءوني مرة يريدون أن أنجز بورتريه لوالدهم المتوفى بعشر نسخ، وفعلت ذلك، وكان هناك فروق بين النسخ العشر لصورة واحدة، وهذا أمر طبيعي لأنه من المستحيل أن تتشابه جميعها في كل شيء، فلا بد من وجوه فوارق ولو بسيطة بينها».

ويأمل محايري من محافظة دمشق أن تجد وسيلة ما لخدمة رسامي الشوارع من خلال السماح لهم بوضع مظلة تقيهم أمطار الشتاء وحر الصيف، ففي الشتاء ومع الرطوبة والطقس الماطر يستحيل عليهم الرسم، لأن الورق الكرتون يتأثر ولا يمكن الرسم عليه في هذا الوضع، كما أن هؤلاء لم يعد لديهم أكشاك كمراسم كما كان في سوق الصالحية.