«عربة الجامع الأموي الخشبية» تعرض أخيرا أمام الزوار

صممها نجار دمشقي أمي بسيط

صور للعربة الشهيرة والزوار أمامها بعد وضعها خلف زجاج شفاف
TT

زائرو الجامع الأموي الشهير في العاصمة السورية دمشق، الذين يعدون بالآلاف يوميا، والذين يتوقفون مندهشين أمام عمارته الفريدة ولوحاته الفسيفسائية الرائعة، سيشاهدون حتما في الجهة الشمالية منه زائرين آخرين متجمهرين في أحد أروقة المسجد أمام قفص زجاجي كبير. وبالتأكيد، سيدفعهم فضولهم للانضمام إلى هؤلاء لاستكشاف ما بداخل الجسم المستطيل الزجاجي الشفاف الضخم الذي ضُم أخيرا إلى موجودات الجامع التراثية.

إنها عربة خشبية ضخمة معروضة وكأنها متحف مستقل بذاته. ولدى سؤال «الشرق الأوسط» عن هذه العربة التراثية وسر الاهتمام بها وعرضها أمام الزوار، جاء الجواب من إدارة الجامع كما يلي: «لقد صممت هذه العربة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1893 وكان مصممها نجارا دمشقيا اسمه عبد الرحمن عثمان الحموي. وكان الهدف من تصميمها وصنعها نقل الأعمدة من جبل قاسيون ومن بلدة قطنا (جنوب غربي دمشق بنحو 25 كم) لإعادة نصب الأعمدة التي تعرضت للتهدم في الجامع إثر زلزال ألحق به أضرارا كبيرة، وكذلك بسبب الحريق الذي شب في الجامع وأتى على معظم الأعمدة القديمة. ويومذاك قرر السلطان عبد الحميد الثاني ترميم الجامع وإصلاح مرافقه وإعادته كما كان قبل الحريق، لا سيما أن كل أخشاب الجامع احترقت في ذلك الوقت وتهاوت معظم الأعمدة بداخله. وحقا، صمم النجار الدمشقي عبد الرحمن العربة الضخمة وتولى صنعها لكي ينقل الأعمدة، واستخدم عبد الرحمن في تصميمها وتصنيعها أسلوبا مبتكرا؛ بحيث جاءت مجوفة من أسفلها لكي يوضع العمود في التجويف ويربط بأحزمة وجنازير فتقل نسبة اهتزازه ولا يتعرض للسقوط أثناء نقله، مع الإشارة إلى أن الطرق لم تكن معبدة في ذلك العصر. وبالتالي، كان لهذا التجويف دور مهم في تأمين وصول العمود سالما من مسافات بعيدة إلى الجامع الأموي. ومن ثم، في أعقاب انتهاء الحاجة العملية للعربة، تقرر أن تبقى في الجامع.

يبلغ طول العربة نحو 20 مترا، وكانت تجر بالخيول أو الثيران، ولها 4 مسننات أمامية مخصصة لربط الخيل أو الثيران وتشد بواسطتها. وهنا تضيف مصادر إدارة الجامع أن لمصمم العربة وصانعها عبد الرحمن عثمان الحموي حكاية طريفة مع السلطان عبد الحميد الثاني تتلخص في أنه عرض على السلطان بنفسه تصميم العربة عندما كان الأخير يبحث بهمة واهتمام عن نجارين مهرة لتصنيعها. وعندما مثل النجار أمام السلطان قال له: «لقد سافرت إلى ألمانيا وشاهدتهم هناك يصنعون عربة، وقد نجحت لديهم واستخدموها بشكل جيد في النقل. ومن جهتي، حفظت مخطط العربة في رأسي وأريد أن أصمم مثلها لخدمة ترميم الجامع». فسُر السلطان ووافق لكنه أمره بأن يتولى تصنيعها أيضا. وبالفعل، نجحت الفكرة وعملية التصنيع، وكوفئ عبد الرحمن على ما أنجزه. وبعد انتهاء أعمال الترميم في الجامع، جاء النجار إلى السلطان، وقال له بجرأة: «سأقول لك، بصراحة، إنني لم أذهب إلى ألمانيا ولم أشاهدهم يصممون عربة، وما صنعته كان من خيالي فقط، لكنني خشيت ألا توافق على فكرتي من منطلق أنني مجرد نجار محلي لا يمكنه فعل ما فعلت، وأن الأمر ربما يحتاج لمهندس دارس في أوروبا أو أميركا».

وحول المحافظة على العربة وعرضها أمام الجمهور، قال مصدر في إدارة الجامع الأموي: «العربة موجودة في الجامع منذ عشرات السنين، وكانت معروضة كما هي، ومكشوفة أمام الناس. غير أننا عملنا أخيرا على تقزيزها عبر تركيب زجاج بسمك نحو 5 سم، وهو من النوع الصلب، وذلك بعد تعرض العربة للمياه والرطوبة مما هدد خشبها بالتسوس ومن ثم التلف. وبناء عليه تقرر أن تتم المحافظة عليها بشكل جيد بعد إصلاحها وترميمها من آثار التآكل الذي بدأ يزحف عليها فعلا. ولقد عرضت أمام الناس والزوار منذ نحو سنة فقط، كذلك حافظنا على الصورة الفوتوغرافية الموجودة فوقها والتي هي عبارة عن منظر للعربة تجرها الخيول وبداخلها عمود».

جدير بالذكر هنا، حسب المؤرخين والباحثين، ومنهم شمس الدين العجلاني، أن الحريق الذي حصل في الجامع الأموي كان في صيف عام 1893، وقد تسبب به من دون تعمد عامل كان يعمل على ترميم أحد أسقف الجامع؛ إذ جلب هذا العامل نارجيلته (الشيشة) ليدخن بينما هو على مقربة من السقف. غير أنه عندما أوقد النار لإشعالها اشتعلت معها أخشاب السقف والأعمدة، وخلال دقائق معدودة كانت ألسنة النار تلتهم الجامع وسحب الدخان الكثيف تغطي سماء دمشق.

إثر ذلك، شكل السلطان عبد الحميد الثاني لجنة خاصة أشرفت على ترميم الجامع، وتألفت من المفتي ووجهاء دمشق. وهي التي قررت الاستعاضة عن الأعمدة الخشبية المحترقة بأخرى إسمنتية تجلب من مناطق ريف دمشق. ومن ثم كان لا بد من عربة تنقلها، فظهر النجار الدمشقي الماهر. والجميل هنا أن العربة بينما كانت تؤدي مهمتها في عملية النقل كانت في كل رحلة تقوم بها من أماكن جلب الأعمدة، يحيط بها الشبان وبشكل استعراضي يطلقون الأهازيج التقليدية فرحا بها.

على صعيد آخر، تعمل إدارة الجامع الأموي حاليا على تنفيذ مشروع ترميم متحف الجامع لعرض موجوداته الثمينة والنادرة أمام الزوار، وتبعا لمصادر الإدارة فإن المتحف سيكون جاهزا للافتتاح أواخر العام الحالي، وذلك بعد إنجاز ترميم حجارته من الداخل وتكحيلها بالكحلة العربية وأيضا ترميم الأخشاب المزركشة بالخطوط العربية التراثية، والبحرة (البركة) والنوفرة داخل مبنى المتحف، الموجود في الجناح الجنوبي الشرقي من الجامع بالقرب من المنارة البيضاء. وسيضم المتحف مجموعة من المصاحف القديمة المطلية بماء الذهب، وهناك درهم فضي يعود إلى زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وكذلك سجاد أثري قديم وصور ولوحات تراثية جميلة.