أكثر من 50 ورشة للأخشاب تعمل في مجال الترميم التراثي بدمشق

«صناديق الجدات» صارت زينة للمطاعم.. والأبواب الدمشقية العتيقة لوحات فنية

حمدي الغزلاني مع الأبواب القديمة وصناديق العروس التراثية («الشرق الأوسط»)
TT

وسط التغيرات الكبيرة التي تعيشها حارات المدن السورية القديمة وأزقتها، ولا سيما العاصمة دمشق ومدن حلب وحمص واللاذقية وحماة، تنتشر بسرعة هائلة المنشآت السياحية التراثية من فنادق ومطاعم وكافيتريات ومقاه وصالات عرض فنية ومسارح وغيرها.

هذا الوضع الجديد الذي تعيشه هذه المدن أفرز، بصورة متسارعة منذ 5 سنوات، ظاهرة ارتفاع قيمة موجودات البيوت القديمة ومقتنياتها. فحتى أدوات المطبخ التي كانت تستخدمها الجدات والكراسي التي كان يجلس عليها الأجداد وضيوفهم بجانب «بحرة» (بركة) البيت القديم صار لها ثمن. وكذلك طقم «الكنبيات» (الأرائك) المهترئ الذي كان المرء يفكر في رميه في القمامة جاء من يعرض عليه أن يشتريه وهو بحالته السيئة بسعر جيد بل مغر جدا.

حتى أبواب الغرف الداخلية التي «أكل الدهر عليها وشرب» - كما يقال - وتعرضت على مدى نصف قرن للأمطار والشمس جاء من يدفع فيها ثمنا ممتازا؟! عمار، وهو مهندس ميكانيكي شاب تخرج في جامعة دمشق قبل 10 سنوات، فضل السكن مع والده في منزلهما الجديد في ضاحية كفرسوسة الدمشقية الراقية تاركين المنزل القديم الذي ورثه عن جده مغلقا.. ولكن هذا قبل أن يعرض عليهما بيعه تمهيدا لتحويله إلى مشروع تراثي. وهو يعلق على الأمر قائلا بكثير من الاستغراب والحسرة «أليس أمرا غريبا، ونحن أصحاب البيوت القديمة التي تركناها منذ سنوات لنسكن المنازل الحديثة في مناطق التنظيم الجديدة الراقية، أن نجدها اليوم تلقى كل هذا الاهتمام من أصحاب المشاريع التراثية؟».

عمار كان يفاوض باسم والده على بيع المنزل القديم، داخل مكتب عقاري دمشقي حيث تصادف وجودنا هناك، عندما سمع من صاحب المكتب والزبون الذي يريد شراء المنزل: «لكل شيء في البيت القديم ثمنه.. وهو قابل للترميم لكي يعود كما كان قبل عشرات السنين».

وحقا، فإن المتجول في حارات «المدينة القديمة» بدمشق وأسواقها، وكذلك في الأحياء القديمة ببعض المدن السورية الكبيرة، سيجد عشرات من الشباب السوريين منهمكين في مهن جديدة صارت تدر عليهم مداخيل جيدة، وتؤمن لهم فرص عمل مقبولة، في ورش صغيرة داخل هذه الحارات.

من أبرز هذه المهن ترميم وتصليح أبواب البيوت الدمشقية القديمة والصناديق الخشبية، التي كانت حتى منتصف القرن المنصرم تعد خزانة ملابس المرأة ومستلزماتها، وأحد أهم ما في جهاز العروس ليوم زفافها، قبل أن تنتشر غرف النوم الحديثة مع خزائنها الواسعة. ولقد تحول الصندوق الخشبي الآن إلى عمل تراثي فني يحرص كل صاحب منشأة تراثية على أن يكون موجودا في صالون وغرف منشأته.

حمدي الغزلاني (40 سنة)، «أبو يوسف»، من السوريين الشبان الذين التقطوا بسرعة التحولات الحاصلة في المدن القديمة، فأسس قبل سنتين ورشة في منطقة العمارة بدمشق القديمة متخصصة في مجال ترميم الصناديق والأبواب الخشبية القديمة وإعادتها إلى شكل فني جميل. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال الغزلاني عن عمله الجديد: «ينتشر في دمشق حاليا عدد كبير من ورش ترميم الأبواب القديمة وتجميلها وتصنيع ما يشابهها، ويقدر عددها حاليا بخمسين ورشة في دمشق. ومن أشهرها ورشتا الخياط والأضباشي، وأنا تعلمت الترميم في ورشة الخياط بفرعها في لبنان، ثم عدت إلى دمشق وعملت مع شقيقي وشريك آخر نجار. ومن المعروف أن أبواب البيوت القديمة الخارجية الكبيرة، التي كان يطلق عليها اسم (الخوخة)، هي عبارة عن باب كبير وبداخله باب أصغر يدخل منه الشخص إلى البيت. وكان يزود بـ(سقاطة) جميلة المنظر للقرع عليها. كذلك هناك أبواب البيت الداخلية التي تصنع من خشب ثمين مع زخارف العجمي، وهذه الأبواب تحتاج طبعا للترميم والصيانة باستمرار، وهذا ما أفعله في ورشتي.. حيث أعمل على إعادة الألوان والزخارف إليها».

وتابع حمدي الغزلاني: «ثم هناك كذلك ترميم المرايا والقنصليات، وأنا أعمل على الخيط العربي التراثي لإعادته لهذه الأبواب وهو عبارة عن حشوات تضاف للأبواب لتزيينها على شكل تقطيعات». وأكد أنه وجميع زملائه المرممين «مستعدون لإعادة الباب إلى شكله الجمالي القديم مهما كان وضعه سيئا ومهترئا.. حتى ولو كان قطعا متفرقة من الخشب فإننا نستطيع إعادته إلى باب تراثي بديع. ثم إن بعض مستثمري البيوت القديمة يطلبنا للعمل في البيت لترميم الأبواب بداخله. وأنا شخصيا أعمل حاليا في بيت الباشا بحي الأمين في دمشق القديمة وبيت النحاس، وهذان البيتان سيتحولان قريبا إلى فنادق».

وحول المراحل التي تمر بها أعمال الترميم والتجميل للأبواب والصناديق الخشبية، قال الغزلاني شارحا: «في المرحلة الأولى، عندما يأتيني الباب أو الصندوق، أبادر إلى تصليح خشبه المتكسر، ومن ثم أرسمه بالمواد العجمية وأزخرفه بناء على طلب الزبون. البعض يطلب الزخرفة بالأسلوب التركي العثماني الذي يعتمد على رسم الكؤوس على الباب، بينما يفضل آخرون الأسلوب الإسلامي القديم. أما عن الصندوق الكبير الذي كانت العروس تتفاخر به وتحمله معها من بيت أسرتها إلى بيت زوجها كـ«جهاز» تضع فيه أغراضها الثمينة، فإنني حاليا أرمم عددا من هذه الصناديق التي ستتحول لاحقا في المنشآت التراثية إلى أعمال زينة، كما أنها تحقق للزائرين متعة تذكر الأيام الخوالي وحياة الأجداد والجدات، وكيف كانت تعيش الأسر القديمة. وللصناديق أشكال متعددة، منها: حفر مسيغ والمصدف السادة وصندوق جوامع».

ولا يكتفي حمدي الغزلاني وزملاؤه بترميم الأبواب بل يصنعون ما يشابهها. فهو كما شرح لـ«الشرق الأوسط» يصور الباب القديم ويرسمه على الورق.. ومعظم هذه الأبواب كان يدخل منها إلى قاعات البيوت الشامية التقليدية، ولذا تراها مرتفعة عليها آيات قرآنية أو أبيات شعر بخطوط عربية جميلة. وأردف: «وعندما يصبح لدي تصور كامل عن الباب، أتوجه لشراء الخشب القديم من المناشر والمحلات المتخصصة، وأعمل على تصميمه وتصنيعه كما رسمته مع كل زخارفه وخطوطه حتى أنه ليستحيل على أي كان أن يميزه عن الباب القديم الأصلي. ومن الخشبيات التي نرممها ونعيدها كما كانت «الكازيات»، وهي عبارة عن صمديات خشبية تعلق بالجدران وكان يوضع عليها قنديل الكيروسين قبل أن تصل الكهرباء إلى المنازل وهذه صارت حاليا للزينة في المنشآت التراثية. وهناك ترميم المشربيات الخشبية التي تمتد من شرفات البيوت القديمة».

وعاد حمدي بذاكرته إلى فترة قصيرة من الزمن قائلا: «منذ عشر سنوات فقط كنا نجمع الأبواب فنشتريها بسعر زهيد لا يتجاوز السعر للباب الواحد 2000 ليرة سورية (ما يعادل 40 دولارا أميركيا)، أما اليوم، ومنذ سنتين، فارتفع سعر مثل هذه الأبواب ليتراوح ما بين الـ100 ألف ليرة والـ200 ألف ليرة سورية (بين 2000 و4000 دولار). لقد تحولت هذه الأبواب إلى تحف فنية. إنه شيء لا يصدقه العقل ولكن هذا هو الواقع».