سورية: مزرعة تتحول إلى متحف تراثي لمدينة النبك عاصمة منطقة القلمون

مالكها يستقبل الزوار والضيوف ويقدم لهم الطعام والمنامة مجانا

جانب من متحف مضيفة جلاب التراثية في النبك («الشرق الأوسط»)
TT

اشتهرت مدينة النبك، على بعد نحو 80 كلم إلى الشمال من العاصمة السورية دمشق، والتي تعد عاصمة منطقة القلمون الجبلية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأنها «مدينة الاستراحات الطرقية». أما السبب فهو وقوعها في منتصف الطريق الدولي الذي يصل دمشق بمدينة حمص، في وسط سورية.

كذلك اشتهرت النبك في بدايات القرن العشرين، ولا سيما فترة الـ«سفر برلك» العثمانية، وبعدها بهجرة أبنائها وجيرانهم من البلدات المجاورة مثل دير عطية ويبرود إلى الأميركتين الجنوبية والشمالية. ولقد أدخل هؤلاء معهم في زياراتهم لوطنهم الأم في منتصف القرن الماضي مشروب «المتة» (أو «اليربا متة») الشهير، إذ تسجل النبك الريادة في نشر هذا المشروب الشعبي الملقب بـ«شاي أميركا الجنوبية» في سورية.

شهرة النبك وأهلها امتدت في مجالات عديدة، وتراثها الفولكلوري تجسّد أخيرا في «متحف» من نوع غير مألوف أراد أحد أبنائها أن يجمعه في مبنى خاص من شأنه أن يزيد من شهرة المدينة. فقد حوّل رشدو الجلاب - «أبو محمد» - «الأربعيني» النبكاوي مزرعته القريبة من مدينته إلى مضيفة ومتحف يحتفلان بتراث النبك والنبكاويين، وجعلها مع دخول الزائر إليها تنطق بتراث مدينته ابتداء باستخدامه الحجر النبكاوي الشهير في بناء متحفه الشخصي.. وانتهاء بالأدوات والمعدّات التي كان يستخدمها سكان المدينة ومزارعوها. بل لم ينسَ «أبو محمد» جلب مروحة الهواء العملاقة التي تستخدم طاقة الريح لسحب المياه من الآبار والتي اشتهرت بها مزارع منطقة القلمون. فهذه المنطقة في زراعتها تعتمد على مياه الآبار نظرا لقلة أمطارها وجفاف طقسها الجاف.

أيضا، تذكر جلاب «العرزال»، وهي الغرفة الذي يصنعها الريفي في الحقول من جذوع الأشجار وأوراقها مرتفعة على الأرض - عموما - على فروع الأشجار الضخمة، يستخدمها الفلاح والصياد، وتطل على التلال والجبال المجاورة موفّرة مناظر بانورامية جميلة.

الطريف في مشروع جلاب الشخصي الهادف إلى توثيق تراث النبك أنه يشتمل على «مضيفة» بداخله لاستقبال الزوّار من أهالي المدينة ومن الضيوف من خارجها، بمن فيهم السياح الأجانب. وفيها يقدَّم الطعام وتؤمَّن المنامة مجانا إذا رغبوا في غرفة تضم الأثاث التقليدي الذي اشتهر في القرن المنصرم ومنه السرير النحاسي وخزانة الملابس المرصّعة بالصدف والموزاييك وما إلى ذلك.

«إنها مضيفة، بكل معنى الكلمة وبتقاليد وعادات العرب الأصيلة»، قال «أبو محمد» لـ«الشرق الأوسط» بعدما قرأ على وجوهنا علامات الاستغراب من تقديمه الطعام والنوم مجانا للزوّار. وأضاف: «وها هي حبّات التمر تقدّم للزائر مباشرة»، قبل أن يبدأ جولته في المضيفة - المتحف مع فنجان القهوة العربية.

«الشرق الأوسط» زارت مزرعة الجلاب ومتحفه ومضيفته، وجالت معه في أقسامها ومع مقتنياتها، التي فاق عددها عشرة آلاف معروض تراثي، وهي «تعطي صورة جليّة لما كانت عليه النبك ومجتمعها قبيل مائة سنة»، كما أكّد «أبو محمد» متحدثا عن حلمه الذي حوله إلى واقع قبل خمس سنوات. وتابع: «ما تراه حاليا، ويراه الضيوف والزوّار، جاء نتيجة جهد شخصي منّي استغرق سنوات طويلة إلى أن تمكنت من جمع كل هذه المقتنيات عبر الشراء بالإضافة إلى ما ورثته عن والدي. لقد بدأت بتأسيس المضيفة - المتحف بجلب الحجر والخشب النبكي، واعتمدت على خيالي في تصميمه.. إذ كنت آتي بعمال البناء وأشرح لهم فكرتي حول تصميم كل قسم من المبنى، فيتولون بتنفيذه كما شرحت لهم. وبعد الانتهاء منه بدأت جمع مفردات تراث منطقتي عبر شراء الأدوات القديمة».

وأضاف جلاب: «تبلغ المساحة الكلية للمشروع 3000 متر مربع، أما البناء نفسه فتبلغ مساحته 300 متر مربع مع ملحقات خارجه في الحديقة، وهي مطبخ قديم يقدم نموذجا للمطبخ النبكاوي قبل عشرات السنين وغرفة خشبية و(العرزال). وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: البهو الواسع الذي يضم موقد نار ضخما يعمل على الحطب وقد صُنع من الحديد والنحاس على الطراز القديم. كما يضم البهو نماذج كثيرة لصناديق خشبية قديمة كانت العروس النبكاوية تجهَّز بها ليوم زفافها وتضع فيها ملابسها وأدوات زينتها. ثم هناك مستلزمات الفلاحة التي كان يستخدمها الفلاح النبكاوي ومنها ما يأخذ تسميات محلية مثل (الشحر)، وهو ما كانت تحمل عليه المحاصيل الزراعية، بجانب المناخل ومناجل الحصاد والمورج (النورج) والنير وسكك الفلاحة (المحاريث) وحتى العربة التي تجرها الحيوانات».

كل هذه الأدوات والمعدّات يعرضها جلاب في أحد أروقة حديقة مضيفته بعدما ضاق البهو بها. ولكن البهو اتسع للكثير من الأدوات النحاسية التي كان النبكاويون يستخدمونها كالصحون والقدور، والأواني الحجرية التراثية التي كانت تستخدم في تحضير القمحية، وأجران الكبة، ومعها نماذج للمدافئ الحطبية القديمة. وفي البهو أيضا أجهزة هاتفية تؤرخ لتاريخ دخول خدمة الهاتف إلى منطقة النبك، وحيوانات وطيور محنطة كالأفاعي والذئب والشيبة وغيرها، وهناك قناديل الكيروسين و«اللوكس».

أما القسم الثاني من المتحف، وهو المضيفة، فقد صمّمه جلاب على الطراز العربي التقليدي. فالمضايف التي كانت تنتشر لدى وجهاء منطقة النبك وأثريائها، تضم عشرات المقتنيات التراثية معلقة على جدرانها أو معروضة في وسطها منها الخناجر والسيوف والأعمال الفنية النحاسية والبنادق القديمة وأزياء القتال.

وأما القسم الثالث من المتحف فيضم غرفة نوم العروسة، التي تضم السرير النحاسي والأواني الخزفية والزجاجية والصندوق الخشبي المصدّف والخزانة.

ويستمر المشوار مع التراث خارج المبنى حيث الحديقة البديعة التي تحولت هي الأخرى إلى مضيفة ومتحف مفتوح في الهواء الطلق، وهنا نشاهد مجرى المياه المتدرج من الأعلى للأسفل الذي تأتيه المياه من بئر تعمل بطاحونة هوائية تقليدية. وهناك المطبخ الذي يضم كل ما كانت تستخدمه المرأة النبكاوية في تحضير المأكولات مع «ملحمة» (جزارة) تراثية. وهناك التنور بمفرداته الجميلة الذي كان يوضع في حجرة الحطب، والعجين الذي ينضج على ناره فيخرج رغيفا من الخبز الأسمر الصحي.. «الذي افتقده الناس في عصرنا الحالي وصار من الماضي» قالها «أبو محمد» متحسرا.

ومن الأقسام الخارجية في الحديقة هناك «العرزال» المعلق على الأشجار والمبني من خشب أشجار اللزّاب النادر الذي كانت تشتهر بها منطقة النبك والقلمون. واللزّاب شجرة حرجية ضخمة رائعة المنظر من فصيلة العرعر، كان المزارعون قبل مئات السنين يقطعونها ويستخدمون حطبها وخشبها لسقف بيوتهم الريفية. ولقد استخدم جلاب خشب اللزّاب أيضا للديكور في بناء المضيفة والمتحف. ويضم «العرزال» معدات الصيد وسريرا يستريح عليه الفلاح والصياد بعد رحلة الصيد والعودة بغنيمة وفيرة. وحول أندر القطع التراثية في متحفه المضيفة قال جلاب: «إنها مجموعة لمستلزمات القهوة العربية نادرة وقديمة تتضمن مصبّات ودلال ومناقل، وكذلك أوعية حجرية لحفظ الزيتون وزيته، وخوابي السمن والدّبس، وأحجار المعاصر التي كانت تستخدم لعصر العنب وتحويله إلى دبس».