كل الطرق في أربيل تؤدي إلى «سوق القيصرية»

أقدم أسواق كردستان العراق «تشكو» من التجديد

يبقى للتسوق في «القيصرية» والتجول فيها مذاقه الخاص، مع أنها ما عادت كما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر السوق الكبيرة في أربيل، كبرى مدن كردستان العراق، المعروفة بـ«سوق القيصرية» من أحد أهم المعالم التراثية للمدينة، وأحد أقدم الأسواق التجارية في الإقليم قاطبة. إذ يعود تاريخ بنائها، حسب بعض مؤرخي المدينة، إلى ما قبل 200 سنة، وتاجر فيها يهود المدينة جنبا إلى جنب المسلمين الكرد، وما زالت آثار دكاكينهم موجودة، وإن طالها الإهمال وزالت معالمها.

من ناحية ثانية، فإن عائلتي الجلبي والدباغ تعدان من أعرق عائلات المدينة، ولذا فإن ثمة من ينسب إنشاء هذه السوق إليهما، ولكن بالنظر لهندسة البناء والمواد المستخدمة فيها يعتقد أن عمر السوق يتجاوز 200 سنة... حين كانت أربيل لا تتجاوز قلعتها الدائرية وبعض الأحياء القديمة المنتشرة على سفحها. وظلت هذه السوق هي سوق المدينة الأهم، على الرغم من توسع المدينة من أطرافها الأربعة، ونشوء أسواق صغيرة في أحيائها البعيدة عن القلعة التاريخية، كسوق «كوران»، وسوق «طيراوة». ولا يزال يرتاد السوق سكان أربيل، لأنها المركز التجاري الأكبر فيها، مع أنه أنشئت فيها مؤخرا عشرات «السوبرماركتات» الحديثة.

وحقا يبقى للتسوق في «القيصرية» والتجول فيها مذاقه الخاص، مع أنها ما عادت كما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، عندما كانت دروبها موزعة على أصحاب مهن بعينها، فهنا «باب القصابين» قرب معرض باتا، وذاك «باب الصفارين» قرب مسجد الحاج نور الدين، وهناك «باب الصاغة» قرب جامع الحاج داود، و«باب القلعة» المؤدي إلى محلات باعة الجبن والعسل.

وبما أن أربيل في تلك الحقبة كانت صغيرة في مساحتها وعدد سكانها، فقد اشتهر فيها أرباب الحرف وأصبحوا علامات بارزة في مجال مهنهم، مثل: آل القصاب وآل الصائغ وآل الصفار. كما مارس التجارة في هذه السوق عدد من الفنانين والمطربين المحليين، من أشهرهم المرحوم الحاج جميل القبقابجي، الذي كان شاغلا المدينة في حياته. وكان مقهى الأسطى خليل الجايجي الذي يفتحه مع ساعات فجر كل يوم هو ملتقى تجار السوق والأعيان، بعد تناولهم فطورهم من الباجه لدى كريم الباجه جي أو التشريب لدى الأسطى سليمان القاورمجي.

لكن التغيير جاء وطال معظم المحلات في السوق، فتشوهت معالمها التراثية بشكل كبير. فمع تحسن الأحوال المعيشية للسكان وزيادة الطلب على شراء الملابس الجاهزة والكماليات، تحولت معظم محلات السوق إلى بيع البدلات والإكسسوارات ومواد التجميل والزينة وغيرها من الكماليات، وباستثناء سوق النجارين التي ما زالت محتفظة بمكانتها، وإلى حد ما سوق الخياطين، لم تعد هناك أي محلات للجزارة إلا قلة قليلة، والبقالون هجروا السوق، ولم يعد للصفارين أو الحدادين أي أثر يذكر، ما عدا أسماء مناطقهم القديمة.

الحاج تحسين إبراهيم، وهو تاجر أقمشة، قال في لقاء معه: «أنا أزاول هذه المهنة منذ خمسين سنة، وورثتها عن أبي. السوق تغيرت كثيرا، ولذا يلح علي ولدي في أن أغير تجارتي من الأقمشة الرجالية إلى الألبسة النسائية الجاهزة، لأنها أكثر رواجا اليوم. ولكن يحز في نفسي أن أترك مهنتي ومهنة آبائي وأجدادي، لذلك أوصيته بألا يغير شيئا في محلي إلى أن أموت... وقد قاربني الموت، وليفعل بعدي ما يشاء».

ويتحدث الحاج تحسين عن الأيام التي يصفها بالجميلة قائلا: «كنا مجموعة من التجار نتعامل كعائلة واحدة، نخرج سوية من بيوتنا في المحلات القديمة، ونأتي إلى جامع السوق، فنؤدي صلاة الفجر، ثم نذهب إلى تناول الفطور عند الأسطى سليمان القاورمجي، ثم نجلس في مقهى الأسطى خليل نرتشف الشاي. ومع تباشير الصباح نفتح محلاتنا، ونبقى فيها حتى المغرب، ثم نغلق محلاتنا ونعود إلى البيت. حتى في الأمسيات كنا نلتقي مرة أخرى في بيت أحدنا نتسامر خلال ساعات الليل. كانت العلاقات حينذاك، صميمة قبل أن يفسدها الدهر، فالآن ترى تجار السوق بالكاد يعرف أحدهم الآخر».

ويروي السيد كريم سعيد ذكرياته شارحا: «كانت الثقة بين التجار في أعلى درجاتها. كان هناك تجار في سوق الشورجة ببغداد يتعاملون معنا بمنتهى الثقة، فنبعث بيد سواق خط بغداد قائمة بالبضائع التي نطلبها، وكانوا يشحنون لنا من هناك عبر كاراج الشمال أطنانا من البضائع بالشاحنات قبل أن نرسل لهم فلسا واحدا، وبعد أن تصل إلينا البضائع ونبيعها في السوق كنا نحول أثمانها إلى تجار بغداد، كانت أسماؤنا معروفة لديهم وثقتهم بنا عالية جدا، ولا نحتاج إلى أي تأمين ما دامت الثقة موجودة».

واشتهر باعة الجبن الكردي في هذه السوق، وكانوا يرسلون أطنانا من الجبن واللبن الأربيلي الشهير إلى بغداد وبقية محافظات العراق، ويقول أحمد عساف: «أخبرني أبي أن محلنا كان المصدر الأساسي للجبن واللبن المصدر إلى بغداد، وكان هناك تجار بغداديون يأتون إلينا مرارا، وعن طريقهم تعلمت اللغة العربية،. فجبن ولبن أربيل كانا شهيرين جدا في سنوات الستينات والسبعينات».

وفي سوق الخياطين، أشار سلام محمد إلى دكاكين بنيت فوق السقف ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وإن تهدم الجزء الأكبر منها، وقال: «هناك كان اليهود يزاولون مهنهم وتجارتهم. كان منهم رفاؤون وخياطون وباعة أقمشة، فقد كانت هذه السوق بطابقين، كما روى لي أبي، وكان اليهود يعيشون بسلام وأمان مع إخوانهم المسلمين. وكان هناك حي يهودي في أربيل قرب السوق، ولكن حسبما علمت أنهم هجروا أربيل في جماعات خلال الخمسينات والستينات، ولم يتركوا سوى هذه المحلات القديمة وحيهم السكني الذي ما زال يعرف باسمهم».

همزة حامد، مدير إعلام المحافظة، قال لنا: «حسب معايير منظمة اليونيسكو يجب إخلاء أطراف القلعة التاريخية، بهدف إبراز معالمها، والقلعة دخلت الآن في اللائحة المؤقتة للمواقع الأثرية العالمية، ونحن في انتظار تحولها إلى اللائحة الدائمة، لتصبح معلما أثريا يوازي أهرام مصر وسور الصين وقلاعا تاريخية أخرى. ووفق الخطة التي وضعناها مع (اليونيسكو) يفترض هدم جميع الأبنية والدور المحيطة بالقلعة لمسافة محددة لإبرازها، و(سوق القيصرية) تقع بمحاذاة القلعة، لكننا استثنيناها من خطط الهدم لأنها سوق تراثية مهمة، وتعتبر أحد المعالم البارزة للمدينة، ونحن الآن في طور بناء سياج خارجي للسوق لإعطائها مسحة تراثية وجمالية، لكننا لن نمسها بأي تغيير، حفاظا على أهميتها ومكانتها في قلوب سكان المدينة».

هذا، ويتندر سكان أربيل بأنه عندما يزورها أحد من سكان الريف يسأل عما إذا تناول كباب أربيل، فإذا أجاب بالنفي، يقولون له: «إذن أنت لم تزر أربيل!»، وهكذا فإن أي مواطن أربيلي يعود إلى بيته في المساء يسأل: هل زرت سوق القيصرية؟ فإذا أجاب بالنفي، فكأنه لم يخرج من بيته ذلك اليوم. فكل الطرق في أربيل تؤدي إلى «سوق القيصرية»!!