التبغ في تونس.. زراعة عمرها أكثر من 180 سنة

نعمة ونقمة في آن

نبتة التبغ في مزارعها («الشرق الأوسط»)
TT

في مثل هذه الفترة من كل عام، تخرج الحاجة رمضانة بن موسى حاملة معولها الصغير، وتتجه نحو الأرض البور تحاول أن تشقها - أو تنكشها - بقوتها المتهالكة بغية تحضيرها لاستقبال نبتات (غرسات) التبغ التي توزعها «وكالة التبغ والوقيد (الثقاب)» في شمال تونس منذ العهد الاستعماري، وتواصل التشجيع على استغلال الأرض في هذا النوع من الزراعة.

أعوان «الوكالة» يتوافدون على العائلات التونسية منذ الأشهر الشتوية يحثونها على تخصيص القليل من المساحة لزراعة التبغ. وهم يشجعون العائلات على ذلك بتقديم النباتات مجانا ومداواتها ومواصلة العناية بها حتى تصل إلى بر الأمان. وينتظرون الغلة مع حلول شهر أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام. ولئن كانت الحاجة رمضانة تقر بأن زراعة التبغ لا تغني ولا تسمن من جوع «لأن عائداتها ضعيفة للغاية ولا تكاد تفي بالأشهر الستة التي يقضيها كل أفراد العائلة في العناية بنباتات التبغ»، فإنها تؤكد، من ناحية أخرى، أن الاستفادة الوحيدة من هذه النوعية من الزراعة هي أن منتجها يدرك مسبقا أنها ذاهبة إلى أصحابها، وبالتالي، ليس هناك أي مشقة في تسويقها.

ثم إن الإدارة المشرفة على زراعة التبغ تتقبل من الفلاحين كل أنواع المنتج، ومن ثم تعمد إلى تصنيفه، حسب نوعيته، إلى نوعية «رفيعة» وأخرى «متوسطة» وثالثة «عادية»، وذلك تبعا لكبر أحجام أوراق التبغ، وميلها إلى النضج الكامل، بما يضمن لاحقا نوعية جيدة من التبغ.

صلاح بن أحمد، فلاح من شمال غربي تونس، قال لـ«الشرق الأوسط»: «إن الدولة التونسية تشجع على هذه النوعية من الفلاحة (الزراعة)، إلا أنها غير مجدية حسب رأيي. فهي تمتص قلب التربة وتؤدي إلى إفقارها إلى أبعد الحدود». وأضاف: «عندما أعمل على تنفيذ برنامج لزراعة هذه النوعية من المزروعات فإنني عادة ما أكون واثقا من أن الدولة هي الرابح الوحيد من هذه العملية. إلا أن ضعف مداخيل العائلات في عديد المناطق، والسعي الدائم نحو تنويع المداخيل وضمان القليل منها خلال أشهر الخريف الكالحة، من العوامل التي تجعل عائلات كثيرة تقبل على هذه الزراعات، لكن أعدادها على أي حال تسير نحو الانحسار نظرا لاقتناع العائلة التونسية بأن زراعة التبغ لا تؤمن المدخول الوفير بالمقارنة مع زراعات أخرى».

من ناحية ثانية، يقارن بن أحمد بين زراعة اليوم والزراعة ذاتها خلال فترة الاستعمار، حين كانت هذه النبتة «عزيزة» - على حد تعبيره - و«كان العون المكلف بمراقبة الفلاحين المنخرطين في هذا النشاط يحصي النبتات بالكامل والويل لمن يضيع نبتة واحدة». ويفسر بن أحمد ذلك قائلا: «ربما يعزى هذا التراجع في قيمة نبتة التبغ إلى الحملات المتكررة التي تشنها المنظمات الدولية على التبغ باعتباره المتسبب الأول في مجموعة من الأمراض الخطيرة التي لم تكن العائلات التونسية على علم بها».

المراجع التاريخية تفيد بأن نبتة التبغ دخلت إلى تونس عام 1830، زرعت أول أغراسها في منطقة الشمال التونسي. وفي عام 1891 أسست أول إدارة للتبغ تحت الإشراف المباشر للدولة، واستأثرت تبعا لذلك بمواد التبغ والملح والبارود.

ومنذ عام 1964، حين أنشئت «الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد»، تستغل هذه المؤسسة العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية قطاع التبغ والوقيد بصفة مباشرة وحصرية. وبالإضافة إلى هذا الوكالة، أنشأت الدولة عام 1981 مصنعا لتصنيع التبغ في مدينة القيروان لتلبية الحاجيات المتزايدة من السجائر؛ إذ إن السوق التونسية تحصل على نسبة 97% من العلامات التونسية.

هذا، واعتمدت زراعة التبغ في تونس خلال السنوات الماضية على الطرق السقوية (الري)، وهي قادرة على رفع إنتاجيتها بصفة ملحوظة؛ إذ بإمكان الهكتار الواحد من الفلاحة السقوية أن يوفر لصاحبه قرابة 4 آلاف دينار تونسي (نحو 3200 دولار أميركي). أما بالنسبة للفلاحة التقليدية المعتمدة على مخزون المياه في التربة - أي الزراعة البعلية - فلا تستطيع توفير الكثير.. ولا تزيد العائدات السنوية على 1000 دينار تونسي على الأكثر (نحو 800 دولار). وهذا بالطبع مرتبط بمدى العناية بالنبتة والنبش عن جذورها وتخليصها من الحشائش الطفيلية، على الأقل، 3 مرات طوال الأشهر الستة من وجودها.

وتنتج تونس، اليوم، أكثر من نوع من التبغ. وثمة أنواع محلية تنتجها العائلات التونسية باستمرار وتستعملها الوكالة المشرفة على صناعة سجائر ذات أوصاف صحية، ومن بين هذه الأنواع: «التبغ الأسمر» الذي أنتجت تونس قرابة 1300 طن منه عام 2008. وهذا النوع من التبغ يجود في مناطق الشمال التونسي والشمال الغربي وولاية (محافظة) نابل الواقعة في منطقة الشمال الشرقي. كانت «الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد» تستورد التبغ الخفيف من نوعي «بورلي» و«الشرقي»، بيد أن التكلفة العالية لهذين النوعين جعلتها تفكر في إنتاجهما على المستوى المحلي، وهي تسعى راهنا إلى تشجيع فلاحي المناطق الشمالية للبلاد على إنتاجهما. وقدر الإنتاج المحلي من هذين النوعين عام 2008 بنحو 1051 طنا. أما بالنسبة لتبغ الاستنشاق، المعروف في تونس باسم «النفة»، من نوع «السوفي» (نسبة إلى وادي سوف بالجزائر)، فإن المناطق الجنوبية الغربية للبلاد (منطقة قفصة، بالأساس) هي الأكثر إقبالا على إنتاج النوعية المخصصة له.

للعلم، يغطي قطاع التبغ والمواد المشتقة منه، اليوم، قرابة 8% من ميزانية تونس. وتستغل «الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد»، ومعها مصنع التبغ بالقيروان، مزارع فلاحية تمتد على مساحة 1900 هكتار، أمكن لها توفير قرابة 2541 طنا من التبغ. وتصل طاقة إنتاج «الوكالة» من السجائر إلى قرابة 320 مليون علبة سنويا. وتحتل تونس - حسب بعض الدراسات - المرتبة الأولى عربيا من حيث نسبة المدخنين البالغ عددهم قرابة 3.5 مليون من تعداد السكان، موزعين بين 50% في صفوف الذكور و10% في صفوف الإناث. وتؤكد هذه الدراسات أن 65% من التونسيين الذين تزيد أعمارهم على 25 سنة من المدخنين، بل ويستهلك التونسي ما معدله 17 سيجارة يوميا وينفق شهريا نحو 90 دينارا (نحو 75 دولارا) على التبغ. وتشير الدراسات الميدانية في تونس إلى أن التدخين يودي سنويا بحياة قرابة 7 آلاف تونسي. وهنا يشير البعض إلى التناقض بين نشاط الدولة في ميدان إنتاج التبغ واستئثارها بكل مراحل إنتاجه وتسويقه، والدعوات المتكررة للحد من التدخين من ناحية أخرى.. على غرار منع التدخين في المقاهي والمطاعم الذي عمل على تطبيقه في تونس منذ يوم 19 مارس (آذار) الماضي.