«مدينة الضمير» بريف دمشق.. موقعها استراتيجي وتاريخ عريق

علي يوسف خلف يوثق تراثها من خلال مئات المقتنيات

من مقتنيات علي يوسف خلف التراثية التي عرضها في معارض بالمدن السورية وصورة لمعبد زيوس القديم في «الضمير».
TT

تتوضع «مدينة الضمير» السورية في ريف العاصمة دمشق على بعد نحو 40 كم إلى الشرق منها، حيث تبدأ منها بادية الشام الواسعة، وإذا كانت شهرة هذه المدينة تأتي بشكل رئيسي من توضعها على بداية الطريق الدولي الذي يربط دمشق بمدينتي تدمر ودير الزور والبادية السورية وبالحدود العراقية باتجاه العاصمة بغداد، حيث لا يمكن لمسافر نحو هذه المناطق إلا وأن يعبر منها ليتوقف قليلا في محطة أبو الشامات الشهيرة التي تبعد عنها نحو 20 كم شرقا، فإن لشهرتها عوامل أخرى أيضا، منها أنها مدينة مجبولة بالتاريخ والتراث والعراقة، فهي موغلة في القدم وتضم بين جنباتها مبنى لمعبد قديم عمره آلاف السنين، كما تتميز بمياه ينابيعها الكبريتية العلاجية، كما يفتخر سكانها بفلكلورهم الذي ما زالوا يحافظون على أصالته.

ومن هذا المنطلق، يعمل أحد أبنائها السبعيني العمر (علي يوسف خلف) على توثيق هذا الفلكلور والتراث من خلال جمع مئات المقتنيات والوثائق والصور عن تاريخ وتراث مدينته وإقامة معارض لها في دمشق والمدن السورية الأخرى، وقسم معارضه لنوعين وهما: التراثي والوثائقي، حيث تحولت هذه الهواية لديه إلى هاجس يومي، منطلقا من عشقه لمدينته.

ويوضح خلف لـ«الشرق الأوسط» أسباب تعلقه بهذه الهواية وأهميتها ونشاطاته في هذا المجال، حيث تحول منزله في البلدة إلى معرض دائم لها قائلا: «تمتلك (مدينة الضمير) موقعا مميزا وتاريخا عريقا، ويبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، وهناك نحو 20 ألف مقيم فيها أيضا، (لقد كان عدد سكان المدينة قبل 1750 سنة نحو 80 ألف نسمة، وقام المغول وأثناء غزوهم للمدينة بقتل سكانها رجالا ونساء، حيث لم ينج منها سوى 200 شخص استمروا في سكن مدينتهم وتعميرها وإنجاب الأولاد). و(الضمير) قديمة جدا بقدم دمشق وتضم معبدا لإله الشمس (زيوس) الذي تم ترميمه قبل سنوات، وكانت تصنف على أنها خامس مدينة رومانية، وفيها نهران من العهد الروماني ما زالا ينبضان بالحياة منذ 2750 سنة ويسميان (الميطرون والدريسية)، وهناك نبع المياه الكبريتية وعمره 3000سنة، وتشتهر المدينة بسهولها الواسعة المسماة الرمدان، وكانت تزرع بالحبوب التي تنقل لبيزنطة وروما وإسطنبول في العصور القديمة، كما كان آخر فرع يزيد المتفرع من نهر بردى يصب في منطقة «الضمير»، وبني بجانبه سد تاريخي بني من الحجر القديم سمي سد ريبة». «وقد استقطبت (الضمير) - يتابع خلف - السياح وبعثات التنقيب الأثري والذين أحبوا هذه المدينة حتى إن خبيرة البعثة الأثرية الألمانية التي عملت في معبد زيوس (ألفريدا برومر) لمدة ثماني سنوات وهي ابنة محافظ مدينة هامبورغ الألمانية، قالت لي: لم أر أجمل من بنائه في كل بلدان العالم» - يضحك علي خلف قائلا: «لقد أصبح اسم الخبيرة الألمانية حاليا ألفريدا برومر خلف، فقد تزوجت بابن شقيقي يوسف خلف... وعبر السنوات الماضية - يوضح خلف - من خوضي لهذه الهواية والمستمرة من عشرات السنين وتفرغت لها بشكل كامل خاصة بعد تقاعدي من العمل الوظيفي، تمكنت من جمع مقتنيات كثيرة جمعتها شراء من أهالي المدينة، حيث تقدم بانوراما لحياة ومجتمع (مدينة الضمير)، ومنها فخاريات قديمة كانت تستخدمها نساء المدينة في المنازل من أجل الاستخدام المطبخي وفي الحياة اليومية وصارت الآن شبه منقرضة، كما لدي نماذج لألبسة سكان المدينة النسائية والرجالية ومنها (الصوايا والقنابيز) الفلكلورية القديمة التي كانت تصنع من الحرير الطبيعي وتعود لنحو 200 سنة، وسرج إنارة، وأدوات الزراعة التي كان يستخدمها مزارعو (الضمير)، على الرغم من أنها مدينة صحراوية، ولكن تميزت عبر تاريخها القديم والقريب بوجود زراعات قمح وشعير ومحاصيل أخرى في أراضيها الواسعة. وأحتفظ بهذه المقتنيات في منزلي، ولكن أعرضها باستمرار في معارض (بلغ عددها حتى نهاية 2010 نحو 15 معرضا) أقوم بها بالتعاون من منظمات شعبية ومراكز ثقافية وجمعيات أهلية.

وفي بعض المعارض الجماعية التي كانت تقام فيها مسابقات لأفضل جناح تراثي، تمكنت من تحقيق المركز الأول في خمس دورات لمعارض تراثية للمحافظات السورية، وفي معرض أقيم على هامش يوم السياحة العالمي قبل 25 عاما، تلقيت بطاقة شكر من وزير السياحة آنذاك، يقول لي فيها: إن اشتراكك بهذا المعرض أدى إلى نجاحه!». يتنهد خلف بعمق وهو يشرح أهمية تراث مدينته، الذي حل محله الآن الأدوات والألبسة العصرية كما هو الحال في كل المدن والريف السوري، قائلا: «تخيل – يا صديقي - كم كان تراث (الضمير) جميلا! فمن مدى روعة نماذج لباس أهل (الضمير) وتنوع موديلاته، قام الفرنسيون إبان الانتداب الفرنسي، وكان يسكن بعضهم في مدينتنا، قاموا بنقل تصاميم ألبسة سكان (الضمير) إلى فرنسا، والطريف هنا أنهم صمموا وصنعوا منه ألبسة وجاءوا بها إلى (الضمير)، حيث باعوه لسكان المدينة؟!».

وفي ما يتعلق بالأدوات المنزلية وخصوصية أهل مدينته في هذا المجال، يقول خلف: «مطبخ (الضمير) معروف بعراقته، ولذلك لدي نماذج لصحون فخارية ونحاسية وحلات الطبخ الكبيرة، ولدي مثلا 12 جرن طحن الكبة الحجري، وكل واحد منها مختلف عن الآخر، حيث كان مصنعوها يتفننون في طريقة تصنيعها لتشكل منحوتات جميلة، كما يوجد لدي جواريش القمح المصنعة من الحجر البازلتي الأسود، ونماذج المطاحن الخاصة بالقمح، والجرار التي كان يوضع فيها أجدادنا السمن العربي الناتج من أغنام العواس البلدية، وجرار اللبن التي كانت تستخدم لخض اللبن وتحويله إلى مادة لزجة تسمى مخيض وتشرب بالكؤوس مثل العيران حاليا».

«وفي ما يتعلق بالوثائق - يتابع خلف - التي أقيم لها معارض خاصة منفصلة عن الأدوات التراثية، فلدي وثائق نادرة جدا ليس فقط لتاريخ مدينتي (الضمير)، بل لأماكن أخرى ومنها وثيقة نادرة عن مستعمرات بئر السبع في فلسطين تعود لعام 1944، وتتضمن كم كان عدد الصهاينة فيها رجالا ونساء وعدد الأولاد وعدد الخيول والدجاج فيها واستخدام الأرض فيها، وبشكل مفصل، مكتوبة بخط اليد، ولدي وثيقة عن عمل بنك الأمة العربية الذي كان مركزه الرئيسي في فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني وله فروع في الأردن ومصر وسورية وتركيا، وهذه الوثيقة لا توجد إلا عندي.

ولدي صورة نادرة لا توجد نسخة ثانية منها، عمرها أكثر من مائة عام، للاحتفال الذي أقيم بالأردن بمناسبة إطلاق الخط الحديدي الحجازي، وتضم شخصيات رسمية جاءت من مصر عبر صحراء سيناء لحضور الاحتفال في الأردن».

ويأمل خلف أن يقوم بعرض هذه المقتنيات والوثائق، التي يسجلها بشكل رسمي لدى مديرية الآثار السورية العامة، حتى لا يعبث بها أحد، في متحف شخصي، من خلال سماح الجهات المعنية الرسمية وتحديدا من مديرية الآثار السورية العامة له وللمهتمين أمثاله بالتراث والمحافظة عليه، أن يفتتحوا متاحف شخصية خاصة - «لقد وعدوني عندما زرتهم قبل 15 يوما بالموافقة على هذا المقترح الذي تقدمت به لرئيس مجلس الوزراء وحوله إلى مديرية الآثار للدراسة» - (يوضح خلف متفائلا) - خاصة أنه في حال افتتح لمقتنياته متحفا خاصا باسمه، فسيبقى موجودا في مدينته وسيحافظ عليه أبناؤه من بعده.