الفلسطيني أبو نديم أول من افتتح عيادة ختان في سورية عام 1950

الجميع يسجلون عياداتهم باسم «الصفوري» نسبة لبلدة صفورية التي قدم منها

صور لأقدم ختاني دمشق أبو نديم الصفوري في عيادته بدمشق («الشرق الأوسط»)
TT

قبل بداية النصف الثاني من القرن العشرين لم تكن العاصمة السورية دمشق ومعها المدن الأخرى والأرياف تعرف ما يسمى عيادات الختان (أو الطهور)، حيث كان من يقوم بهذه العملية للأطفال هم الحلاقون وبعض المطهرين الجوالين على دراجاتهم مع أدوات ومستلزمات العمل. لكن في عام 1950 شهدت دمشق افتتاح أول عيادة ختان من قبل الاختصاصي أبو نديم الصفوري، وهو فلسطيني لجأ إلى سورية بعد قيام دولة إسرائيل في فلسطين وقدومه من بلدة صفورية في قضاء الناصرة. ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى فوجئ الدمشقيون بانتشار الكثير من عيادات الختان التي حملت جميعها لقب الصفوري مع اختلاف الاسم الأول فقط والأشخاص العاملين فيها. والطريف في الأمر هنا أن هذه العيادات (الصفورية) التي تكاثرت في ربع القرن الأخير في جميع حارات دمشق تنافست مع بعضها بعضا بشكل لافت للنظر من خلال الإعلانات وآرمات العيادات، على أن كل واحدة منها تكتب وبالخط العريض «نحن المركز الرئيسي الأول». والطريف أيضا أن اسم الصفورية على هذه العيادات أعطاها شهرة وانتشارا في دمشق وخارجها بشكل كبير، مع أن كل عيادة ختان منها ليست لها علاقة بالأخرى، ولا توجد علاقة قرابة بين العاملين فيها باستثناء أن الجميع ينتمون لبلدة صفورية الفلسطينية التي اشتهرت في فلسطين بكثرة «المطهرين» فيها، فجاءوا إلى دمشق نازحين ومعهم هذه المهنة التي لاقت رواجا كبيرا بين السوريين بسبب عدم وجود عيادات ختان ثابتة من قبل في سورية ولاهتمام السوريين بتقاليد الختان لأطفالهم، حيث كان يشكل يوم طهور الطفل في الأسرة حدثا سعيدا لهم.

وكان يقام لذلك حفل توزع فيه الحلويات وتذبح الخراف ابتهاجا، وتنشد فيه أشعار شعبية وهتافات من قبل فرق العراضة الشامية معبرة عن هذا الحدث السعيد. لكن مع مرور الوقت تلاشت هذه المظاهر الاحتفالية واقتصرت وبشكل بسيط على عدد من العائلات في الأحياء الشعبية وفي الأرياف، حيث يتم بهذه المناسبة، ومن قبل أم الطفل، سلق القمح وتوزيعه مع إضافة الملبس و«النوكا» (مربى مغلفة) على الأقارب والجوار والأصدقاء.

الحاج قاسم حسين الصفوري (أبو نديم)، والذي تجاوز الثمانين من العمر، يروي لـ«الشرق الأوسط» حكايته مع الختان وافتتاحه لأول عيادة ختان في سورية وكيف نافسه الآخرون في ما بعد، حيث يعلق على ذلك ضاحكا «نكاية في هؤلاء سأكتب على عيادتي: نحن المركز الرئيسي الثاني!.. وليظلوا هم يكتبون (الأول)، فالجميع هنا في دمشق يعلم أنني أول من افتتح عيادة ختان في عام 1950، وهذه المهنة تعلمتها بالوراثة والدراسة، فنحن كنا في بلدة صفوري الفلسطينية (وهي بلدة قديمة سميت على اسم الملك الأصفر، وكان عدد سكانها قبل الاحتلال الصهيوني نحو عشرة آلاف نسمة) نمارسها أبا عن جد وبشكل علمي. وكنا نقوم بها في كل المدن الفلسطينية وحتى العريش والقدس، لذلك كنت أول من حصل على ترخيص صحي نظامي من الجهات السورية المسؤولة. وقد علمت هذه المهنة لأولادي الخمسة الذين حصلوا على شهادة ختان، لكن معظمهم فضل العمل بالتجارة ولم يعمل بالختان». ويتذكر أبو نديم كيف حصل على شهادة الصف السابع في فلسطين مع عدد من زملائه الذين صاروا أساتذة ومعلمي مدارس بموجب هذه الشهادة فيما هو رفض العمل التدريسي ليتفرغ لمهنة الختان فقط.

ويضيف أبو نديم «عندما جئت إلى دمشق بعد عام 1948 وكنت قبلها قد سكنت لفترة عند أخوالي في منطقة بنت جبيل في لبنان، أردت فتح عيادة ختان في دمشق ولم يكن يسمح لي كلاجئ ونازح فلسطيني بافتتاحها، فقابلت (حسني الزعيم) الذي كان قاد انقلابا في سورية سنة 1949 وأصبح حاكما لسورية، وشرحت له وضعي ووضع زملائي الفلسطينيين اللاجئين من أصحاب المهن العلمية والطبية، فأصدر المرسوم التشريعي رقم 96 بالسماح لي ولزملائي بترخيص وافتتاح عيادات صحية للأطباء والمطهرين والقابلات، لكن بعد فحصهم والتأكد من حصولهم على الشهادات والخبرات المطلوبة. وبالفعل خضعت لفحص من قبل لجنة في عام 1950 كانت في منطقة دوما قرب دمشق، وكان يشرف على وزارة الصحة الدكتور شراباتي، ومنحتني اللجنة الموافقة والرخصة، وبعد افتتاحي لعيادة الختان وكانت في منطقة الميدان الدمشقية القديمة بدأ الناس في التهافت على العيادة لختان أولادهم».

والطريف هنا أن الحاج «المطهر» أبو نديم يؤكد أنه وعبر مسيرته مع الختان الممتدة ستين عاما لاحظ أن هناك أخطاء كثيرة يقع بها المطهرون الآخرون ويضطر لإصلاح عيوبهم، حيث يأتي الأهل بأطفالهم إليه، حتى إن دخول الأطباء على خط عملية الختان لم يكن موفقا من قبلهم، كما يرى أبو نديم، فالبعض منهم يقع في أخطاء لذلك يرى أن الختان تحتاج لمطهر خبير وممارس وليس لطبيب.

ومن المواقف اللافتة خلال عمله الطويل، يتذكر أبو نديم كيف أن أحد أساتذة كلية الطب بجامعة دمشق جاءه في منتصف خمسينات القرن الماضي، وقال له «أرسلتني وزارة الصحة لأطلب منك تلبية دعوتها لإعطاء محاضرات ولمدة ساعة لطلاب كلية الطب تعلمهم فيها عملية الختان على طريقة الصفوري ونسميك أستاذ جامعة، ويضيف «اعتذرت منه لأنه لم يكن لديّ الوقت لذلك، وكنت أعمل ليلا نهارا لتلبية طلبات الناس لختان أطفالهم. وكذلك تذكرت كلمات والدي أن طريقة ختان الصفوري سر لا يجوز أن تعطيه لأحد وأن يبقى ضمن العائلة فقط، فهي طريقة علمية تتميز بالمهارة والإتقان، ونوازن بشكل علمي دقيق العملية من خلال إبعاد أصابع اليد وغير ذلك. ولم يحصل معي مطلقا أي خلل أو خطأ في عملية ختان طفل بعكس زملائي الآخرين. والختان علم وفن، وهو ينقسم لستة أنواع، وهي: قمري وقمقم ولاصق وكاشف ووسيط وخمسة أسداس».

وفي رحلة أبو نديم مع الختان محطات كثيرة ومن أبرزها كما يتحدث عنها «في عام 1978 سافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية وعملت هناك لخمسة عشر عاما في ختان أطفال الجالية الإسلامية هناك. وفي نهاية خمسينيات القرن المنصرم كلفتني وزارة الصحة السورية بالتفتيش على المطهرين والعاملين في تجبير الكسور، وأتذكر أن منطقة ركن الدين بدمشق كان فيها وحدها أكثر من 165 مطهر أطفال، وطلب هؤلاء تشكيل نقابة للمطهرين في ذلك الوقت». والمعروف أن أي شخص حاليا يريد مزاولة مهنة الختان عليه الحصول على شهادة وترخيص من قبل وزارة الصحة السورية.