درب السلطان في دمشق.. موقع فريد بأبنية جميلة

نموذج لفنون العمارة في أواخر العصر المملوكي

زقاق درب السلطان من العصر المملوكي بدمشق («الشرق الأوسط»)
TT

في زقاق دمشقي يتموضع خارج أسوار المدينة القديمة بحي قديم يدعى قبر عاتكة يعود لمئات السنين؛ حيث درج الناس المقيمون في الحي على تسميته بدرب السلطان أو السلطاني، واعتمدت التسمية رسميا من قبل المعنيين في محافظة دمشق ولهم مبرراتهم في هذه التسمية؛ حيث كان هنا يسكن أحد أمراء دمشق في العصر المملوكي (خليل التيروزي حاجب الحجاب) الذي كان، على ما يبدو، يعشق فنون العمارة فجعل من هذا الزقاق الضيق موقعا فريدا بأبنيته الجميلة وحوله إلى طريق يومي له يعبره من قصره متجها نحو الجامع الذي أشاده في الزقاق ونحو الحمام التقليدي الذي بناه أيضا وليطلق عليهما اسمه.

وعلى الرغم من طوله القصير نسبيا، تعتريك قشعريرة تسري بجسدك؛ حيث تسمع من مرافقك خمسيني العمر (أبو ماهر) الذي تطوع ليتجول معنا في الحي والزقاق وليقدم لنا معلوماته البسيطة عنه، وهو من أبناء الحي القديم، أنك تسير في طريق لم يتغير نسيجه وأرضيته منذ 600 عام وأنك يا عزيزي تسلك الدرب الذي سار عليه أهم شخصية في دمشق في ذلك التاريخ.

وتزداد القشعريرة مع الوقت الذي يسير ببطء وأنت تتوقف قليلا وتسير بضع خطوات فيه، فالأبنية القديمة المتراصة بجانب بعضها تحجب ضوء الشمس قليلا وإلى حين حتى ينتصف النهار وتتموضع الشمس عموديا على الزقاق، تمشي بخطوات بطيئة مع ارتفاع نظرك للأعلى لتشاهد جماليات العمارة في هذا الزقاق الذي يختصر بمفرداته فنون العمارة المملوكية في دمشق.

وتشعر بالقشعريرة تتعمق وأنت تنظر نحو بناء ترابي قديم متهالك بطابقين يكاد يقع وبجانبه بناء إسمنتي يبدو أنه حديث الإشادة يخترق نسيج الزقاق القديم، وبمعلوماته القليلة يحدثك أبو ماهر عن أن الزقاق مع جزء من الحي دخل مؤخرا ضمن الأماكن المشمولة بحماية المدينة القديمة، خاصة أن هذا الزقاق يضم مبنيين أثريين، هما: الجامع والحمام.. ويحدثك أبو ماهر كيف أن الأمير المملوكي طلب في البداية أن يبنى الحمام ومن ثم المسجد، مبررا ذلك بأنه، حسب المؤرخين، على من يرتاد الجامع الجديد للصلاة أن يستحم ويتوضأ في الحمام قبل أن يدخل الجامع.

والمبنيان اللذان رمما لأكثر من مرة مسجلان ضمن المباني الأثرية لدى مديرية الآثار السورية، ويتميزان بشكل معماري جميل. والشيء الجميل هنا أن الحمام الذي يأخذ اسم الأمير التيروزي على الرغم من الموجة التي شهدتها حمامات دمشق التاريخية العامة في السنوات الماضية بتحويلها لأغراض أخرى كمطاعم ومقاهٍ تراثية لضعف الإقبال على حمامات السوق وانقراض بعضها، فإن مستثمره حرص على ترميمه بعناية والاهتمام بكل مفرداته وتزويده ببعض الخدمات الصحية العصرية لجذب السياح والناس من خلال الساونا والمساج وغير ذلك.

لذلك ينظر إلى هذا الحمام بعناية من قبل القائمين على السياحة في دمشق كونه واحدا من قلة قليلة من الحمامات المكتملة في دمشق، كما أن تاريخه القريب يروي أهميته وشهرته، خاصة في خمسينات القرن المنصرم وحتى أواخره؛ حيث كان الحمام مقصد العائلات لتخصيصه جزءا كبيرا من وقته للنساء، فاشتهر كحمام نساء بكل ما يعني ذلك من تقاليد شعبية تراثية متوارثة في مجال حمامات النساء، التي يعتبر الذهاب إليها نوعا من السيران والنزهة أو البحث عن عروس لأبنائهم الذكور؛ حيث تلتقي النساء مع الخاطبات التقليديات في الحمام.

مستثمر الحمام الحالي (أبو الخير التيناوي) الذي ينتمي لعائلة امتهنت إدارة حمامات السوق منذ عشرات السنين تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية وتاريخ وواقع الحمام الحالي، موضحا أن مساحة الحمام تبلغ نحو 700 متر مربع ويتألف من 3 أقسام: البراني الذي يضم 4 مقصورات، والوسطاني، والجواني الذي يضم 4 مقصورات أيضا، وهناك باحة تضم بحرة ونافورة جميلة وفي الحمام مسبح وساونا ومساج وتدليك وتكييس. وعمر الحمام نحو 600 سنة؛ حيث يعود لأواخر العصر المملوكي وحرصنا على المحافظة على كل مفردة من مفردات عمارة الحمام - يتابع أبو الخير - أثناء ترميمنا له الذي انتهى قبل سنتين واستمرت عمليات الترميم 3 سنوات.

ويعيد أبو الخير الفضل في المحافظة الدقيقة على جماليات الحمام أثناء الترميم له للمهندس عصام العاني، الذي يحمل الجنسية البريطانية وهو من أصل عراقي، والذي أشرف على أعمال الترميم. وحمام التيروزي مبني باستخدام أسلوب الحجر المتناوب (الأبلق)؛ حيث الحجارة الصفراء والسوداء، ويتميز بزخارفه وبزجاجه المعشق الملون وبقبته بيضاء اللون الجميلة وبمدخله الذي تعلوه زخارف هندسية، ولأبو الخير تفسير مغاير لتفسير أبو ماهر في سبب بناء الحمام قبل الجامع، موضحا أن السبب في ذلك هو أن العمال الذين سيبنون الجامع عليهم أن يستحموا كل يوم قبل المباشرة في عملهم وبعد إنجاز عملهم اليومي؛ لذلك بني حمام التيروزي قبل الجامع بفترة قليلة، ونستقبل به حاليا المستحمين الرجال طيلة أيام الأسبوع باستثناء يوم واحد خصصناه للنساء كما تقام به مناسبات اجتماعية تتعلق بإحياء التراث القديم كمستلزمات الأعراس التقليدية؛ حيث يأتي العريس في يوم زفافه ويستحم في الحمام بالشكل التقليدي مع العراضة وفي حال رغب أهل العروس أن يستخدموا الحمام أيضا نحجزه لهم لفترة محددة أو ليوم واحد؛ حيث تستحم العروس، مع استخدام الأسلوب التقليدي من والدتها وشقيقاتها وصديقاتها؛ حيث يزففنها بالهناهين المعروفة وبالحنة. ويؤكد أبو الخير أنه علم من جهات رسمية أن البيوت الأربعة القديمة والمتهالكة التي تفصل بين الجامع والحمام وهي كانت بالأصل بيت واحد وقسمها صاحبها إلى 4 تم تسجيلها أثريا وبالتالي ستخضع لأعمال ترميم وإصلاح، ويعني ذلك المحافظة على زقاق درب السلطان وعلى نسيجه القديم وعلى مبانيه المهمة.

لقد ورد ذكر حمام التيروزي في الكثير من المراجع التاريخية.. يرينا أحد العاملين فيه والمتحمس له وللبحث عن تاريخه وعراقته ورقة سجل عليها سطورا تتعلق بكتابات عن تاريخ الحمام تقول: ورد في الدارس للنعيمي الدمشقي أنه في شهر ربيع الأول من سنة 848هـ فتح حمام الأمير غرز الدين خليل التيروزي شرقي مدرسته وهو حمام كبير حسن وأجر بكل يوم بأكثر من 40 درهما. وقد اعتبره المهندس الفرنسي إيكوشار الذي جاء دمشق في أربعينات القرن المنصرم ووضع المخطط الحديث لدمشق في زمرة حمامات القرن الـ15 الميلادي (1444م) وهو قريب لما حدد تاريخه المؤرخ النعيمي الدمشقي. واعتبرت مديرية الآثار السورية العامة هذا الحمام من الحمامات الدمشقية ذات الصفة الأثرية وسجلته ضمن المباني التاريخية.