«كراس» المسيحي يصنع منابر المساجد

«حدوتة» مصرية يعرفها الكبار والصغار

كراس جرجس أشهر نجار في صناعة منابر الجوامع بصعيد مصر
TT

كثيرة هي الحواديت والقصص المصرية التي تجسد قيم وعادات وأعراف المصريين على مر الأزمنة والأمكنة. والطريف أن هذه الحواديت التي يطرب لها الكبار قبل الصغار، وصارت مضرب الحكم والعبر والأمثال، أبطالها مصريون، يستظلون تحت راية وطن واحد، بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة.

هذه الأيام، وبعد واقعة كنيسة الإسكندرية يتذكر الناس في صعيد مصر «كراس جرجس»، و«سيد عبد الرحيم»؛ الأول مسيحي وقف في باحة مسجد بقرية نائية يدعو الله أن يرد له ابنه سالما بعد أيام من غياب أرق ليله، وقد تحلق حوله عدد من المسلمين من أبناء القرية يشاركونه الدعاء، ويتوجهون لله الواحد الأحد. وقد نذر جرجس نذرا، أن يتنازل عن ثلث أجره من صناعة المنابر إذا عاد ابنه.. ومع تمام اليوم الثاني كان ابن جرجس يطرق باب بيته عائدا من وحدته في الجيش حيث كان يقضي مدة خدمته العسكرية، وقد أوفى جرجس بنذره.

لم يكن بالأمر المستغرب وجود جرجس في الجامع؛ فمهنته التي امتهنها قبل ربع قرن هي صناعة منابر المساجد. وقد بدأت حكايته قبل سنوات طويلة، يقصها لـ«الشرق الأوسط» فيقول: «كنت نجارا ماهرا.. وقد أراد واحد من أصدقائي المسلمين بناء مسجد على نفقته الخاصة فعهد إلي بصناعة منبر المسجد، فلم يكن بوسعي رده».

حين انتصب المنبر في المسجد ونال إعجاب الناس، أصبح جرجس صانع المنابر الأول بمحافظة قنا التي تبعد نحو 600 كيلومتر عن العاصمة المصرية القاهرة.. وهناك كان عم عبد الرحيم يبحث لابنه سيد عن عمل مناسب، وقد أخذه من يده ذات يوم إلى ورشة نجارة فكري جورجيوس ليتعلم صنعة.

عشق سيد حرفته ومال أكثر نحو الحفر على الخشب وبرع فيه، وكان أول عمل يتمه بنفسه «نقش بارز للسيدة مريم وهي تمسك السيد المسيح عليه السلام». كان معلمه جورجيوس مختصا في النجارة الدقيقة من مشربيات وتعشيقات جدران دور العبادة، وصلبان الكنائس وأهلّة مآذن المساجد، وقد رغب سيد في أن يتعلم كل شيء، فتعلم حفر الصلبان قبل الأهلة.

حينما وقع انفجار أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية مطلع العام الحالي عاشت مصر صدمة حقيقة، لم تكن بسبب الاختراق الأمني الذي مكن إرهابيين من تنفيذ مخطط آثم، إنما كانت الصدمة لأن المصريين هم من أمثال جرجس وسيد، هذا ما يعتقده سيد، يقول: «تحدث من وقت إلى آخر أحداث شد وجذب بين مسلمين وأقباط.. لكنها قشرة من صدأ لا تستطيع أن تغطي معدن المصري».

يشاركه جرجس اعتقاده؛ إذ يرى أن الصدمة التي خلفها انفجار كنيسة القديسين بالإسكندرية نفضت غبار تراكم على «حتة شغل حلوة».. حفنة غبار لا تغير الحقيقة المستقرة في هذه البلاد. حقيقة كرستها حضارة ترسخت على مر القرون.

يقول سيد إن «مهنتي جعلت علاقتي بالإخوة الأقباط قوية، ربما أكثر من غيري.. علاقة لا تتأثر بأي مشكلات أو ضغائن تحدث هنا أو هناك.. أشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويبادلونني المشاعر نفسها، والعمل بالكنيسة تماما كالعمل بالجامع».

تقصد أعداد كبيرة من المسلمين مدينة قنا حيث مسجد عبد الرحيم القناوي الشهير، وربما لا يعرف كثيرون منهم أن منبر المسجد الشهير من صنع كراس جرجس، الذي يقول إن أكثر ما يعتز به منذ أن بدأ عمله هو هذا المنبر بالذات؛ منبر «مسجد عبد الرحيم القناوي».

بعيدا عن الشعارات الزائفة والأقاويل الخادعة، استطاعا؛ كراس جرجس صانع منابر المساجد، وسيد عبد الرحيم نجار الكنائس، أن يجسدا معنى الوحدة الوطنية، وأن يبرهنا عليها واقعا حيا يقاوم مظاهر التطرف الطارئة على المجتمع المصري.

وعلى الرغم من سنوات عمره التي تعدت الـ63، وأعراض الشيخوخة التي يقاومها «المقدس جرجس» كما يناديه أهل قريته، فإنه يصر على البقاء في ورشته مشرفا على صبيانه ومستمتعا بين الحين والآخر برسم التفاصيل الدقيقة للمنابر وتشكيل قطع الأرابيسك التي يطعّم بها منبرا يوضع في مسجد بقرية من قرى الصعيد، ويقص حكاية عن ناس النهر، فيتردد صداها داخل كنيسة في قرية أخرى حيث لقيمات الخشب على جدرانها وصلبان حفرها سيد عبد الرحيم.