منطقة «المدن الميتة» السورية تدخل قريبا لائحة اليونسكو للتراث العالمي

تضم 780 قرية في محافظتي حلب وإدلب تتميز بمواقعها التاريخية المعمارية الفريدة

آثار قلعة سمعان في شمال سورية («الشرق الأوسط»)
TT

على مدى السنوات الماضية اجتهد الباحثون والمهتمون بوضع الدراسات المستفيضة والمفصلة عنها لتبوئها موقعا مهما واستراتيجيا على خارطة المواقع التاريخية والسياحية السورية. ولقد أطلق عليها عبر السنين العديد من التسميات، منها: «المدن الميتة» أو «المدن المنسية» أو«المدن النائمة».

جميع هذه التسميات تبقى قريبة من واقع هذه «المدن»، أو بالأحرى هذه القرى، التي كانت مأهولة قبل قرون خلت، وتقع في شمال غربي سورية، وتحديدا في محافظتي إدلب وحلب.

يقدر عدد هذه القرى بنحو 780 قرية منها في الحقيقة بعض القرى المأهولة حاليا.

وحسب الوثائق التاريخية ازدهرت هذه «المدن»، أو القرى، كثيرا في القرنين الرابع والسادس للميلاد، وبني فيها أكثر من 2000 كنيسة. وكلها تتميز بغناها بالمواقع الأثرية والمباني، التي تحتاج اليوم لأعمال ترميم وإصلاح؛ خاصة أنها تشهد يوميا زيارات عشرات السياح.

ولكن خلال الأشهر الأخيرة عادت «المدن الميتة» لتتصدر قائمة الاهتمامات بعد الإعلان عن قرب تسجيل ثماني منها في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وموعد الإعلان شهر يوليو (تموز) المقبل. وتأتي هذه الخطوة بعد زيارة قام بها خبراء اليونسكو بناء على الملف الذي قدمته الجهات المعنية في سورية خلال فبراير (شباط) من العام الماضي. أما «المدن الميتة» أو القرى المقترح وضعها على لائحة التراث العالمي، فهي: قلعة سمعان والرفادي وست الروم والشيخ بركات وبراد وكفرنبو وخراب شمس وبرج حيدر.

من المؤكد أن هذا الحدث الكبير المرتقب، أفرح كثيرين من المهتمين بالمواقع الأثرية والتاريخية السورية، ومنهم الدكتور علي القيّم، الباحث التاريخي والأثري السوري ومعاون وزير الثقافة السوري. والقيّم، المهتم جدا بهذه الأماكن الأثرية، كان له بحث مطول ومحاضرة عن «المدن الميتة» أو «المنسية»، أشار فيه إلى أنها تمتد من الشمال إلى الجنوب على مساحة طول 140 كلم، بعرض يتراوح بين 20 و40 كلم، ويمر محورها من قورش وآفاميا، ويحدها شرقا طريق حماة - حلب - إعزاز، وغربا وادي عفرين ثم نهر العاصي.

في هذه الجبال، وعلى منحدراتها وسفوحها، وكذلك في وديانها، قامت هذه «المدن» التي بعدما أطلق عليها الرحالة قديما اسم «المدن الميتة»، أطلق عليها حديثا اسم «المدن المنسية» لأنها تنتظر من يباشر بترميمها وإعادتها إلى الحياة بعد سبات قسري امتد نحو ثلاثة عشر قرنا. ولا شك أنها تستحق ذلك بجدارة لأنها تحتوي على معظم العناصر اللازمة لازدهار سياحة ثقافية ودينية وعمرانية استثنائية، خاصة أنها تضم أكثر من 700 موقع أثري مدهش بعمارته، وغني بطبيعته وتراثه التاريخي والثقافي والأثري.

المباني الأثرية، التي ما زال معظمها قائما في هذه القرى والمناطق المهجورة بالكامل، أو المسكونة جزئيا تحدّها شوارع تتخللها دور السكن العادية أو ذات الطابقين (الفيلات). وما أكثر صهاريج المياه المحفورة في سطح الأرض والمجهزة لجمع مياه الأمطار لاستعمالها في الشرب. وثم هناك بقايا الحمامات والمعاصر.

«لقد كان الاقتصاد في المدن المنسيّة - كما يروي القيّم - يعتمد على زراعة الكرمة والزيتون، وتصدير منتجاتها بالإضافة إلى تربية المواشي. وهناك أيضا بقايا الجسور والطرق والمدافن بأنواعها المختلفة، تحت الأرض وفوقها، مفردة وجماعية. وأيضا العديد من الأبنية الدينية من مجمعات العمران أو المندمجة فيها مع أبراج النساك وأعمدة العموديين وأنواع الكنائس الصغيرة منها ذات الرواق الواحد، والكبيرة التي تفصل بين أروقتها الثلاثة أعمدة أو ركائز».

ويتابع: «ويوجد في المدن المنسيّة بقايا الكثير من الأبنية السكنية والدينية في بقع خضراء من أشجار الزيتون والكرمة والتين والسنديان، مما جعل السلطات الأثرية تعمل على الحفاظ عليها وتسجيلها في عداد الممتلكات الأثرية الواجب الحفاظ عليها وترميمها، باعتبارها غابات طبيعية ومجمّعات معمارية متميزة ونادرة يصعب وجودها في أي مكان آخر من العالم».

ويضيف الدكتور القيّم، مفصّلا، «.. من أهم ما يلفت النظر في بقايا المدن المنسيّة مكانة الزخارف وأهميتها على صعيد تطوّر أشكالها، وتطوّر معاني الرموز التي تحملها، وكان لها نماذج عديدة أهمها: المقولبات المستوحاة من النماذج الكلاسيكية والمزينة أحيانا ببعض الأفاريز، والشكل الآخر الذي تمثل (المدوّرات) أغلب نماذجه. وكانت الزخارف في القرن الرابع الميلادي مقتصرة على سواكف الأبواب، وعلى أساور الأقواس، وتيجان الأعمدة. ولكن ما إن بدأ القرن الخامس الميلادي حتى أخذ المهندس السوري الجوّال قيريس يطبع الكنائس التي بناها في عدد من المدن المنسيّة بطابعه الخاص، كما تدل على ذلك الكتابات المؤرخة التي تحمل اسمه. وكان قيريس يطوّر في أشكال الزخرف النباتي الكلاسيكي، من أفاريز أوراق (الأكانت) إلى التخيلات والوريقات المتداخلة، وإلى الجدايل المزدوجة. وقد ظلت هذه الصيغ الجديدة التي أطلقها في العمارة السورية، تسود أكثر من قرنين من الزمن، غير أن توافد الصناع من مختلف أنحاء بلاد الشام إلى هذه المنطقة، تسبب بعودة الزخم الهندسي والزخرفي إلى المدن المنسيّة بأسرها، ولقد تزينت واجهات العمائر بالمقولبات التي كانت تحيط بالنوافذ والأقواس المحمولة، وحلّت الأشكال الهندسية محل الأشكال النباتية بصورة تدريجية، وعادت الغصون العينية إلى الظهور في القرن السادس الميلادي على هيئة سلسلة من الوريقات المثلثة البارزة، بحيث لم يبق من غصون (الأكانت) إلا الضلوع. وتميّزت زخارف النصف الثاني من القرن السادس الميلادي بدمج تيارات زخرفية متعددة، وعكس هذا التنوع والغنى في الزخارف مدى تنامي روح التجديد في بناء وزخارف هذه المواقع والأوابد الرائعة، كما تدل على ازدهار المنطقة ووصولها إلى نوع من أنواع الوحدة الثقافية المتفتحة على الخصائص المحلية والإقليمية، وعلى التأثيرات الخارجية».