صابون الغار.. صناعة تقليدية ابتكرها الحلبيون قبل 200 سنة

«الشوام» دخلوا ميدانها قبل ربع قرن

صابون الغار.. وأنس مارديني أحد الشقيقين اللذين أدخلا صناعته إلى دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

تشتهر مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري، بأنها المركز الاقتصادي الأول في سورية. وهي تتبوأ مكانة تجارية واقتصادية مهمة منذ مئات السنين، كما أنها اشتهرت عبر التاريخ بالصناعات التقليدية التراثية التي ابتكرها أبناؤها وأبدعوا فيها.

من الصناعات الحلبية التقليدية العريقة: صناعة «صابون الغار»، التي يعود عمرها لأكثر من 200 سنة. ولقد عملتْ فيها، ولا تزال، أسر حلبية معروفة، منها الزنابيلي، وفنصة، وجبيلي، وكلها تخصصت بهذه الصناعة وتوارثتها جيلا بعد جيل. كذلك عُرفت لهذه الصناعة سوق خاصة بها هي خان الصابون في «المدينة القديمة» بحلب. ومن حلب انتشرت صناعة هذا النوع من الصابون في عدد من المدن السورية، خاصة في منطقة الساحل؛ حيث يكثر شجر الغار، الذي يؤخذ منه زيت الغار، ويطبخ به الصابون الشهير مع زيت الزيتون.

أيضا وصلت صناعة صابون الغار إلى العاصمة السورية، ولو متأخرة بعض الشيء، مع العلم أن صابون الغار وُجد في دكاكين دمشق منذ عشرات السنين، لكنه كان كله في ذلك الحين مستوردا من حلب. ولقد أسست أول ورشة لتصنيعه في دمشق قبل 25 سنة فقط على يدي الشقيقين بشر وأنس مارديني، اللذين تعاونا مع الصانعين الحلبيين في هذا المجال.

من جهة ثانية، حاول الجانبان الحلبي والشامي تطوير نماذج من هذا الصابون وتحويله من قطع مستطيلة أو مربعة جامدة ذات ألوان صفراء مخضرة إلى أشكال متنوعة وتزيينية جميلة تلبي رغبات مختلف المستهلكين. وحقا ظهرت في دكاكين بيع صابون الغار نماذج لمسابح وحيوانات ونباتات مصنعة.

«الشرق الأوسط» زارت متجر أنس مارديني في دمشق، وشاهدت بعض إنتاجه، ومنها مسبحة (سبحة) طويلة صُممت وصنعت حباتها الـ33 مع خيطها وشرابتها من صابون الغار. وعندما لاحظ مارديني دهشتنا لرؤيتها، قال معلقا: «نصنع هذه الأشكال منذ سنوات قليلة بواسطة آلات خاصة، مع إدخال الكومبيوتر في هذا المجال لتصميم النماذج، وبالتعاون مع حدادين وخراطين».

وتابع: «يمكن تصنيعها وحفرها يدويا، لكنها إذ ذاك ستباع بأسعار مرتفعة. وبالتالي، لن يقبل عليها الناس كثيرا، خاصة أنها تستخدم عادة للتعليق في الحمامات؛ حيث تعتبر ملطف جو ينشر رائحة الغار الزكية داخله. واليوم نستطيع أن نصنع من صابون الغار أي شكل يريده الزبون.. كشكل أرنب أو دجاجة أو جمل مثلا للزينة ومن أجل الأطفال ولتعطير خزائن الألبسة. وتستمر روائح هذه النماذج، التي لا تُستخدم في الغسل بل للزينة والتعطير، نحو سنة.. وهي روائح طيبة جميلة، ثم إنه لا يوجد في هذا النوع من الصابون أي مادة كيميائية مزعجة فيها، كما أنه يمنع الحشرات من دخول خزائن الملابس».

وأضاف أنس مارديني: «ثمة نماذج وأحجام صغيرة من صابون الغار مصممة خصيصا للاستخدام في الفنادق والمطاعم.. بأشكال دوائر وقلوب ومثلثات ونجوم وكرات. وهذه تصنع يدويا، وهناك نماذج بأشكال طريفة يمكن للطفل أن يأخذها معه إلى المدرسة ويضعها في جيبه».

وسألنا أنس عن الشيء الذي أضافه الصانعون الشوام إلى صابون الغار، فأجاب: «إن هناك تكاملا وتعاونا دائما مع الصانعين الحلبيين في هذه الصناعة، فهم قد يسبقوننا مثلا في ابتكار نماذج أو نسبقهم نحن في ابتكار نماذج أخرى، فيجري تبادلها فيمن بيننا. مثلا، سبقنا الحلبيون في تصميم شكل المسبحة، إلا أنه لم يأت بشكل منتظم، فبادرنا نحن إلى تغيير الآلة المستخدمة لاستقبال قوالب صغيرة وكبيرة؛ بحيث تنتج نموذج مسبحة بشكل منتظم يشبه شكل المسبحة الحقيقية. وبالنسبة لنا هنا في دمشق، نجحنا أيضا في إضافة بعض المواد الجديدة على مكونات صابون الغار، منها إضافة أعشاب مثل البابونغ والينسون وماء الورد، ووفقنا إلى تصديرها إلى خارج سورية».

واستدرك أنس مارديني، موضحا: «أنا وأخي كنا أول من أنشأ ورشة متكاملة لصناعة صابون الغار في دمشق قبل ربع قرن، إلا أننا لا يمكن أن ننكر فضل الحلبيين علينا.. ففي السنة الأولى من انطلاقتنا جاء خبراء حلبيون في هذه الصناعة وساعدونا ودربوا عمالنا الدمشقيين. وبحمد الله انطلقنا فيما بعد، واستطعنا تطوير نماذج منها».

وحول شهرة مدينة حلب في هذه الصناعة، وسبقها فيها، قال أنس: «من المعروف وفرة وجود المواد الأولية المطلوبة لهذه الصناعة في محافظة حلب، وبشكل خاص زيت الزيتون وزيت الغار. وكانت هناك فكرة شائعة تقول إن هذه الصناعة لا تنجح في مدينة دمشق؛ كونها تعتمد على ضرورة وجود طقس بارد، ولا بد من تصنيعها في أشهر الشتاء الباردة وعلى الأيدي الماهرة. لكننا في دمشق أثبتنا ألا صحة لهذه الفكرة، وبالفعل نجحنا في صنع صابون الغار - يتابع أنس بكل ثقة - حتى بتنا نبيع صابوننا في مدينة حلب في بعض الأحيان! ومع أن النسبة بسيطة لا تتجاوز 10% فإنني أعتبره شيئا جيدا».

وشرح أنس مراحل تصنيع صابون الغار ومستلزماته، قائلا: «نأتي بزيت ثمار شجرة الغار بعد عصرها، وليس من ورق الشجرة، كما قد يعتقد البعض، وتعصر الثمار بطريقة الغلي - إذ توجد طريقتان لاستخراج الزيت، هما: الغلي فيخرج الزيت للأعلى، أو العصر في مكابس خاصة - ويستخرج هذا الزيت ليخلط مع زيت الزيتون، ومن ثم يغلى الخليط في أوانٍ كبيرة فينتج مادة لزجة مائلة للشكل الجامد. ومع إضافة مادة التصبن - ماءات الصوديوم - يترك الخليط لمدة 24 ساعة حتى تترسب الشوائب والمواد غير الذوابة، ومن ثم يؤخذ المزيج العلوي النظيف ويمد على مباسط عريضة. وهنا أيضا يترك لمدة 24 ساعة ليتم فيما بعد تقطيعه بأيدي العاملين بواسطة السكاكين إلى الأشكال التي يرغب بها الزبون، وحسب الرغبة في الاستخدام. وهذا هو صابون الغار، الطبيعي 100%، ويباع إما مكشوفا وإما مغلفا بشكل أنيق للمحافظة على جودته وصلاحيته لأطول فترة ممكنة». وأردف: «كل طبخة ذات حجم نظامي، وهو 5 أطنان من الزيوت، تعطي نحو 24 ألف لوح من الصابون.. وبالمناسبة، كانت جميع مراحل هذه الصناعة تجرى باليد، لكنها تحولت في العصر الحالي إلى خليط بين اليدوي والآلي، وهذا ليصبح بإمكاننا زيادة الإنتاج وتسريع عملية التصنيع، أما الجودة فظلت كما هي.. فنحن نعتمد على الأيدي العاملة الخبيرة التي تتقن مراحل العصر وتعرف جيدا المقادير المطلوبة للطبخة الواحدة من الصابون».