«لنغسل التعب عن بردى».. حملات شعبية لتنظيف المجرى الدمشقي

تغنى به الشعراء والمطربون.. وسماه الرومان نهر الذهب.. واليونانيون نهر الفردوس

مجرى فرع نهر بردى العقرباني بمنطقة باب توما بدمشق
TT

ينظر إليه الكثيرون مع الغوطة الخضراء التي ولدت بفضله على أنهما صنوا مدينة دمشق. وقد تغنى الكثير من الشعراء والمطربون به، واصفين مياهه وضفافه ومتنزهاته قبل أن يصاب بالجفاف والتلوث بالمخلفات ويمتلئ بالنفايات المنزلية وبقايا المطاعم المقامة على ضفافه وبمياه الصرف الصحي منذ أكثر من ربع القرن.. إنه نهر بردى الخالد الذي تغنى به أمير الشعراء أحمد شوقي عندما زار دمشق في النصف الأول من القرن الماضي، مفتتحا قصيدته الشهيرة بـ«سلام من صبا بردى أرق»، كما غنته فيروز واصفة رقته بعبارتها المعروفة «مر بي يا واعدا وعدا مثلما النسمة من بردى».

ولأن بردى ودمشق صنوان، وهو الذي أعطاها الخضرة والحياة وحول من غوطتيها الغربية والشرقية، ومن المناطق التي يمر بها من منبعه وحتى مصبه كدمر والربوة وكيوان بساتين ومناطق تضج بالحياة ومتنزهات رائعة تستقطب الزوار والسياح والباحثين عن سحر الطبيعة الخلابة من كل بلدان العالم، كان لا بد من استنفار الجميع، مؤسسات حكومية وجمعيات أهلية وشعبية، للتخفيف عن بردى متاعب السنين الماضية وإزالة ما سببه الإنسان بحقه من تلوث.

وهذا ما حصل في الأشهر الأخيرة، ويحصل حاليا، حيث انطلقت قبل أشهر حملة شعبية أهلية تحت عنوان «لنغسل التعب عن بردى» تضمنت وبمشاركة مئات المتطوعين الشباب والكبار إزالة أكوام الأوساخ والأتربة والمخلفات من عدد من فروعه داخل مدينة دمشق وفي غربها، حيث تتوضع المتنزهات على ضفافه في منطقة الربوة, كما لا تزال الحملة مستمرة ومتواصلة لتنظيف النهر من آثار السنين المتعبة من خلال حملة التنظيف العامة التي أطلقتها وزارة البيئة السورية بالتعاون مع الجمعيات الأهلية المختصة في مجال البيئة في كل المحافظات السورية في بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التي ستستمر لأشهر مقبلة، ومن ضمن ما شملته الحملة تنظيف نهر بردى وفروعه، حيث تم إزالة المخلفات في عدد من مجاريه وسواقيه التي تحولت لمكان تجمع المياه الآسنة والقمامة وغيرها من الملوثات البيئية. وتشرح المهندسة رويدة النهار، رئيسة لجنة المتابعة بحملة النظافة في وزارة البيئة السورية لـ«الشرق الأوسط»، ما تم العمل به من أجل بردى في الشهرين الماضيين قائلة: لقد وضعنا في الحملة مناطق ساخنة لها الأولوية في التنظيف ومنها فروع نهر بردى، حيث تم إزالة كل الأوساخ والمخلفات من مجرى نهر بردى في المنطقة الممتدة من متنزهات الربوة وحتى مدخل دمر غرب دمشق بطول نحو 3 كيلومترات، حيث صار المجرى نظيفا تماما. كذلك يجري حاليا تنظيف مجرى النهر في منطقة الزبلطاني باتجاه موقع الدباغات ومنطقة باب توما والقابون، حيث يوجد فرع بردى المسمى العقرباني وفي موقع علوش بمنطقة جوبر شرق دمشق. كما يتم تنظيف فرع النهر والمسمى بأنياس المجاور للقلعة والمتوضع بجانب سوق السروجية القديم، وقد أزيلت مئات الأمتار المكعبة من الأوساخ والمخلفات، وتستخدم في الحملة الآليات المتخصصة بالأنهار من أجل إزالة المخلفات بالتعاون مع مديرية الموارد المائية ومع المتطوعين من الجمعيات الأهلية، ومن الناس العاديين الذين يرغبون في العمل معنا بشكل طوعي لتنظيف نهر بردى وغيره من المواقع والأماكن في دمشق.

وفي رحلة مع نهر بردى الخالد، نرى أنه، وحسب المؤرخين والباحثين، نهر قديم عريق، حيث وجد في أيام الآراميين وأطلقوا عليه اسم أبانا أو أمنا، بينما سماه الرومان نهر الذهب، وأطلق اليونانيون عليه اسم «باراذيوس»، أي الفردوس، وهو الاسم المحبب لدى العرب، الذين أطلقوا عليه هذا الاسم، أي الفردوس. وكعادتهم في الاستثمار المتقن لمجاري الأنهار والبحيرات قام الرومان بالاستفادة من مياهه في جرها إلى دمشق عبر القنوات، وهي المنطقة التي تتوسط دمشق حاليا، كذلك حفروا الأنفاق في الصخور لجلب مياه النهر نحو بساتين الغوطتين وإرواء بساتينها من مياهه, وكذلك شق الأمويون فرعا منه أطلق عليه يزيد لسقاية المدينة, وبردى الذي ينبع من السفوح الشرقية لجبال لبنان الشرقية على مسافة نحو 60 كيلومترا من دمشق غربا، يعبر واديا ضيقا لينبسط في ما بعد بسهل الزبداني وليشكل مجموعة من العيون والينابيع العذبة الجميلة التي قامت بجوارها الكثير من المتنزهات والمنتجعات السياحية ومنها عين الخضرة والفيجة. وليسير النهر شرقا نحو منطقة الهامة ودمر. وفي منطقة الربوة، حيث سيدخل منها إلى دمشق يبدأ بالتفرع إلى سبعة أفرع تتوضع في مناطق دمشق الكثيرة وتأخذ تسميات مختلفة آرامية رومانية وعربية وهي: يزيد وتورا والديراني والمزاني والقنوات وبانياس والعقرباني.

ويذكر هنا أن الجهات المعنية في دمشق قامت في السنوات القليلة الماضية بتجميل ضفاف نهر بردى في عدد من المناطق بشكل معماري جميل، خاصة في المنطقة الممتدة من جسر فيكتوريا وحتى ساحة الأمويين بطول 1185 مترا، حيث أقيمت أربع بوابات على طول المجرى تعمل على رفع منسوب المياه فيه، ويؤدي إلى تشكيل شلالات عند مواقع السدات، مع إقامة نوافير مائية. وكذلك قامت هذه الجهات التي نفذت في منتصف تسعينات القرن الماضي محطة معالجة ضخمة للصرف الصحي في منطقة عدرا شمال دمشق، والناتج عن مناطق ومعامل دمشق خففت من مياه الصرف الصحي، التي كانت تمر بالنهر في مناطق متعددة ومهمة مثل المنطقة الممتدة ما بين بابي توما والسلام في دمشق القديمة وفي منطقة المرجة وشارع القوتلي، قرب مدينة المعارض القديمة وغيرها. كما كان هناك الكثير من المقترحات لإعادة الحياة لهذا النهر الخالد في أقنيته السبع داخل دمشق من خلال إعادة المياه المعالجة والنظيفة في المحطة وإمرارها فيه، خاصة أن النهر الذي يعاني من الجفاف داخل دمشق يفرح الدمشقيون كثيرا في شتاء كل عام، عندما تهطل الأمطار بغزارة حيث تعود مجاري النهر للعمل وتستقبل مياه الأمطار والثلوج، كما حصل قبل أيام، وتحديدا في النصف الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث شهدت دمشق هطول الأمطار والثلوج بغزارة وصلت إلى أكثر من 110 ملليمترات وبسماكة ثلوج لنحو نصف المتر في بعض مناطقها فعاد بردى داخل دمشق ليجري ويصفق (كما وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة خالدة: قال فيها: جرى وصفق بلقانا بها بردى كما تلقاك دون الخلد رضوان) عاد بردى كطفل صغير فرحا بعودة الحياة إليه من كرم الطبيعة وجودها.