الجمعيات المالية الشهرية.. ظاهرة اجتماعية انتشرت في سورية

أطلقها موظفون من ذوي الدخل المحدود وربات البيوت

الجمعيات المالية الشهرية انتشرت بين النساء من ربات البيوت كظاهرة اجتاحت سورية («الشرق الأوسط»)
TT

انتشرت قبل نحو عقدين من الزمن في مختلف المناطق السورية ظاهرة اجتماعية حقيقية ما كانت معروفة من قبل، هي الجمعيات المالية الشهرية.

كان مجال هذه «الجمعيات»، بشكل خاص، موظفو القطاع العام وبعض المؤسّسات والمعامل الصغيرة. ولكن نظرا لشعبية هذه «الجمعيات» ونجاحها... فإنها تحوّلت من تجربة محدودة إلى ظاهرة اجتماعية شملت حتى نساء الحارة الواحدة أو الشلة الواحدة وحتى أصحاب الدكاكين الصغيرة، وقطاع من يوصفون بصغار الكسبة. ثم انها امتدت ولو جزئيا إلى طلبة المدارس فبنت بينهم ترابطا اجتماعيا جميلا.

الجمعيات المالية الشهرية، التي تطلق عليها تسميات مختلفة منها «البنوك المحلية» و«البنوك الذاتية التمويل»، شكل من أشكال الادخار والتسليف يشبه البنوك ولكن مع فارق جوهري هو أنها لا تفرض فوائد على المقترضين ولا يحتاج المشارك فيها لدفع رسوم وتقديم طلب ولصق طوابع عليه. والطريف في هذه الظاهرة الاجتماعية - المالية أنها، منذ انطلاقتها، صارت لها أعراف وتقاليد إذ يتبرع أحد الموظفين في الدائرة الواحدة بتبليغ زملائه أن هناك جمعية مالية سيعلن عنها بقسط شهري محدد. وبالتالي، كلما زاد عدد المشاركين فيها كلما كبر المبلغ الذي سيقبضه المشارك غير أنه سينتظر لفترة أطول قبل الحصول على المبلغ، أو سيتوجب عليه أن يشترك بإسمين لكي يحصل على مبلغ مضاعف خلال شهرين – مع أنهما قد لا يأتيان متتابعين -،. وعليه، ما يحدد هنا موعد تسلّم المشارك المبلغ النهائي هو القرعة التي تجرى بعد اكتمال عدد المشاركين. وهذا تقليد متعارف عليه في هذه الجمعيات. إذ يضع الموظف المتطوّع لجمع المال والأقساط الشهرية من زملائه الأسماء في وعاء، ويجري السحب على عدد الأشهر مع الأسماء. وهكذا، فمن يأتي اسمه في شهر معين يقبض المبلغ في ذلك الشهر مع وجود استثناءات. وهنا يشرح ما يحصل رستم صالح، وهو أحد الموظفين في مؤسسة عامة سورية ومتطوّع منذ أكثر من عشر سنوات بإطلاق مثل هذه الجمعيات المالية بين زملائه. يقول رستم موضحا: «الالتزام بتقليد القرعة ليس ضرورويا. فنحن نطرح الموضوع على الزملاء، ومَن هو بحاجة أكثر إلى المال يقدم له نصيبه في الشهر الأول، وهكذا... حتى أن البعض من المشاركين لا يريد أخذ المال إلاّ في أواخر، وثمة مَن يحدد الشهر لقبض المبلغ ولا سيما عندما يكون عليه التزام مالي أو أنه سيذهب في رحلة سياحية مكلفة ماليا خاصة في فصل الصيف».

ويتابع رستم: «حتى لو أجرينا قرعة فهناك من يتخلى عن دوره المتقدم لصالح زميله المتأخر عندما يكون الثاني بحاجة إلى المال. وهذا، بالطبع، نوع من الإيثار والتعاضد الاجتماعي بين الزملاء في مكان العمل الواحد». ثم يبتسم رستم معلقا «ألسنا عربا ولدينا عادات قديمة ومعروفة من أهمها إغاثة الملهوف والإيثار؟!».

وتتدخل روعة سليمان، الموظفة مع رستم في المؤسسة نفسها، لتتحدث عن هذه الجمعيات قائلة: «هل تصدق أنني منذ خمس سنوات لم تفلت جمعية شهرية مني؟!.. فأنا - كما يعلم رستم - مشاركة دائمة فيها بإسم وأحيانا بإسمين. وصحيح أنني أدفع نصف راتبي تقريبا للجمعية لكنها تبقى أفضل من قروض البنوك. فهنا أحصل على المبلغ من دون أي اقتطاعات ودون فوائد وهو مبلغ مقبول ويحل لي الكثير من الصعوبات المالية».

ولكن السؤال هنا ماذا تفعل سليمان وغيرها بالمبلغ الذي تكرره مع كل جمعية جديدة؟ وياـي ردها «لقد استفدت حتى الآن من خمس جمعيات. وهذه المبالغ تساعدنا على تأمين متطلبات الأسرة والبيت، خاصة، أننا نسددها بأقساط شهرية. فأنا مثلا اشتريت من هذه المبالغ أثاثا جديدا لمنزلي وأدوات كهربائية، وفي واحد من مبالغها دفعت أجرة عملية جراحية أجريتها في مستشفى خاص، وهناك مبلغ آخر سدّدته للاشتراك في دورات لغات وكومبيوتر. ثم تضيف «يا أخي، لقد وفرت لي مبالغ مالية جيدة للإيفاء ببعض الالتزامات المترتبة عليّ». ومن المفارقات هنا مع هذه الجمعيات، التي أطلقها - كما هو معروف - الموظفون من أصحاب الدخل المحدود والراتب الشهري القليل نسبيا، أن بعض أصحاب الدكاكين في أسواق المدن السورية الشعبية أغرتهم هذه التجربة المالية، فأسسوا جمعيات مالية بين بعضهم وخاصة للدكاكين المتجاورة. بيد أن الفارق بينهم وبين جمعيات الموظفين أنهم (أي أصحاب الدكاكين) حولوها لجمعيات أسبوعية توزّع الأدوار لقبض المبالغ كل أسبوع على المشاركين وبالقرعة أيضا. أما السبب فهو أن لدى هؤلاء سيولة مالية يومية ولا ينتظرون راتبا شهريا كما هو حال الموظفين.

أيضا، انتشرت هذه الجمعيات بين سيدات المنازل من غير الموظفات، والمتفرغات للبيت، وخاصة بين الجيران في الحارة الواحدة أو بين الصديقات. وأفراد هذه الفئة يدفعن مبالغ مالية شهرية ويستفيدن من المبلغ النهائي بشراء حاجياتهن الشخصية أو المنزلية. والمميز هنا بتجربة جمعيات سيدات المنازل أنهن حولن هذه الجمعيات إلى طقس اجتماعي لطيف... إذ يجتمعن كل شهر في بيت إحداهن - تحديدا في منزل التي ستستفيد من المبلغ والتي يكون الدور دورها في قبض المبلغ الإجمالي - ويتسامرن لعدة ساعات، مع تقديم الحلويات والمشاريب وغير ذلك. كذلك انتشرت هذه الظاهرة بين بعض طلبة المدارس وإن كان بمبالغ مالية بسيطة. إذ يتولّى أحد الطلبة جمع المبالغ المالية المحددة من رفاقه، الذين عادة ما يقتطعونها من «خرجيتهم» (مصروفهم) اليومية، ومن ثم يقبضون المبلغ حسب الدور كل أسبوع. وهو بضع مئات من الليرات السورية، وغالبا يكون المعلمة أو المعلم مصدر «ضمان» التزام الطالب بدفع المبلغ الأسبوعي، وقد تشترك المعلمة - أو المعلم – مع الطلبة في جمعيتهم من باب التشجيع على تأسيس مثل هذه الشراكة الاجتماعية بين زملاء الصف الواحد في المدرسة.

ولكن ثمة من يتساءل ألا توجد مشاكل وصعوبات في مثل هذه الجمعيات الشهرية؟

رستم صالح يرد موضحا «هناك صعوبات محدودة جدا وهي تتعلق بمن يجمع المبالغ الشهرية أي بأمثالي - يضحك رستم -، وقد تكون المشكلة تأخر أحد المشاركين في تسديد المبلغ الشهري المتوجب عليه لسبب أو لآخر... فنضطر عندها لمتابعته. وقد يتهرب أحيانا، وخاصة، إذا كان قد قبض المبلغ من الجمعية إبان دوره فيتأخر بتسديد الأقساط الشهرية. ولكن هذه تبقى حالات فردية ولموظفين جدد أو لموظفين مؤقتين في الدائرة ينتهي عقد عملهم قبل أن يسددوا مما عليهم، فنعمل على الاتصال معهم وقبض المبالغ الشهرية منهم».