ضابط شرطة بكردستان العراق يمتلك أكبر أرشيف إذاعي

صور فنان كردي أغلى من صور رئيس الجمهورية عبد السلام عارف

كريم مع بعض الفنانين العراقيين («الشرق الأوسط»)
TT

قد لا يتمتع رجل الشرطة في بعض دول المشرق، ولا سيما العراق إبان فترات الحكم الشمولي بأنه من «جلاوزة النظام». فهكذا وصفهم عالم الإجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في معظم مؤلفاته عن تاريخ العراق الحديث. وحقاً ينظر كثيرون إلى رجال الشرطة على أنهم غلاظ خشنون في التعامل مع الناس. العميد فرهاد كريم، مدير شرطة أربيل الأسبق، في كردستان العراق، حتماً شخصية مخالفة تماماً لهذا الانطباع عن رجال الشرطة، وذلك لما يتمتع به من حس مرهف تبلور عنده بفضل عشقه للفن والموسيقى، وهو ما دفعه الى أن يجمع في منزله مكتبة أرشيفية موسيقية ضخمة، تحوي على تسجيلات نادرة قد تكون مفقودة حتى في مكتبات الإذاعات الحالية في بغداد.

«الشرق الأوسط» اطلعت على هذه المكتبة الأرشيفية، ووجدت فيها أشرطة تعود الى فنانين عراقيين أشتهروا في مطلع القرن الماضي، وفيها أسماء قد لا يتذكرها كثيرون من الجيل السابق، فكيف بالجيل الحالي الذي نسي الفنان العراقي لاهثا وراء فنانات الكليبات الهابطة المنتشرة في الفضائيات هذه الأيام.

ويستذكر كريم، وهو من مواليد عام 1949، أجواء الخمسينات حين كان طفلاً صغيراً تلتقط اذانه في بعض الليالي، وهو راقد الى جنب أمه على سطح الدار، الموسيقى المنبعثة من بيوتات قلعة أربيل المطلة على محلته «العرب القديمة». وعندها كان يستمع ويطرب إلى أصوات شجية تنساب من هناك وهي تشدو بأعذب الألحان الكردية والتركمانية، فيسأل أمه عن مصدر هذه الموسيقى فترد عليه بأنها منبعثة من حفلة عرس - تسمى في أربيل بـ»أكلنجة». وهذا النوع من الحفلات تعده عائلة العريس في الليلة السابقة للزفاف وتدعو اليها عدداً من مطربي ذلك الزمن الجميل بعد إنتهاء إقامة المولد النبوي، الذي يسبق عادة تلك الحفلات. وفيها تبدأ الفرفشة بعد إنتهاء المولد ويسود الطرب والرقص مع أطايب الطعام والشراب.

في تلك الأيام التقطت أسماع فرهاد كريم موسيقى عذبة وألحان جميلة فانغرزت بمسام جلده، لتدخل الى خلاياه كما يقول ... فنما عشقه للفن. ولكن هذا العاشق للفن والموسيقى ضاعت عليه الطريق بمشيئة القدر، فحين شهادته المتوسطة للتقدم الى معهد الفنون الجميلة ببغداد، ساقه القدر دون أن يدري الى إعدادية الشرطة. وهناك تقدم اليها وتخرج فيها برتبة مفوض شرطة.ومن ثم تدرج في الرتب حتى ويصل الى رتبة عميد، وعيّن مديراً لشرطة أربيل لسبع سنوات ... قبل يحال على التقاعد ليتفرّغ لعشقه للفن والموسيقى.

قال كريم خلال اللقاء معه «طوال السنوات التي خدمت فيها بسلك الشرطة زائداً السنوات السبع التي تبوأت فيها منصب مدير الشرطة ثم معاوناً لمدير عام شرطة الإقليم، لم ألحظ يوماً ارتكاب فنان من الفنانين جريمة. في كل صباح كان سكرتيري يقدم لي ملف الحوادث اليومية، لكنني لم أجد يوماً أن فناناً أرتكب جريمة أو جناية أو حتى جنحة بسيطة، أما السبب فهو حسه المرهف الذي هو نعمة من الله يختص به الفنان». وتابع «في بعض الأحيان كانت تردني أسماء بعض الفنانين لكنهم ما كانو معتدين بل معتدى عليهم، وهذا ما زاد من إحترامي وتقديري للفنانين الذين صادقت كثيرين منهم طوال حياتي. وأنا أرى ن الفنان هو الوحيد من بين شرائح المجتمع الذي يعطي ولا يأخذ. تصور المتعة التي يحصل عليها المستمع الى أغنية لأحد المطربين في الإذاعة. المستمع هنا يتمتع بالأغنية دون أن يدفع شيئا بالمقابل، وهذا المطرب الذي تستمع اليه يمتعك دون أن يأخذ منك شيئاً، فكيف إذناً لا يحق له أن تحترمه وتقدّر عطائه».

وسـألناه «لقد ساقك القدر، كما تقول الى سلك الشرطة على الرغم من عشقك للفن والموسيقى، ولكن لماذا لم تحاول أن تمارس الفن ولو على سبيل الهواية مثلا؟. فأجاب «القدر حال أيضاً دون ذلك. فكلما رتبت حالي لتعلم الموسيقى أو ترتيب مرسم لممارسة الرسم كانت الظروف تعاكسني، وبالذات التنقلات الوظيفية ومهام الوظيفة كانت تضيع عليّ في كل مرة تلك الفرص».

في الواقع، عشق العميد فرهاد أًصوات كبار فناني القرن الماضي، وعدد لنا أسماء بعضهم الذين كانوا نجوماً متلألئة في عصرهم، ومنهم من المطربين الكرد فؤاد أحمد وشمال صائب وعلي مردان وطاهر توفيق ومحمد أحمد أربيللي وشقيقه جلال حردان. ثم روى حادثة طريفة وقعت لهذا الأخير ليبين لنا مدى قيمة الفنان لدى جمهوره وما يعانيه عادة في أوائل فترة ظهوره. فقال «عام 1964 أقامت جمعية الهلال الأحمر في كركوك حفلة موسيقية بمناسبة تأسيسها ودعت اليها عددا من الفنانين. وكان المطرب جلال حردان يومذاك يشارك فيها بأول ظهور له على المسرح، ولقد ذهب إلى هناك بشروال وقميص فقط، فإستهزأ به زملاؤه من الفنانين الاخرين المدعوين الى الحفلة خلف الكواليس، وصاروا يتهامسون في ما بينهم قائلين «مَن هذا الوظيع الذي جاء ليغني في الحفلة»؟!. ولكن بعد صعود حردان الى المسرح وتقديمه فقراته الغنائية إهتزت القاعة طرباً، وقام الجمهور برمته في القاعة إجلالا له ولصوته الذي كان من الأصوات الخارقة والجميلة. وإستمر التصفيق لفترة طويلة وطالبه الجمهور بإعادة مقاطع أغانيه عشرات المرات. وبعد إنتهاء الحفلة طبعت صور هذا الفنان ووزّعت في مدن كردستان. والمفارقة، أن صور هذا الفنان الذي بدأ ظهوره في عالم الغناء للتّو، كانت تباع بأسعار أعلى بكثير عن صور رئيس الجمهورية آنذاك عبدالسلام عارف».

ثم تحدث مدير الشرطة الأسبق عن الفنانين العراقيين الذين إلتقى بالعديد منهم، فقال» كنت معجباً جداً بصوت رائد المقام العراقي الاستاذ محمد القبانجي ولديّ العديد من أشرطة المقام التي شاد بها، وكذلك بالفنان الكبير يوسف عمر الذي اعتبره صاحب أكبر مدرسة للمقامات العراقية، والفنان الراحل ناظم الغزالي «سفير الاغنية العراقية الى العالم العربي»، ثم يأتي بعدهم جيل الستينات من أمثال سعدون جابر وحسين نعمة وفاضل عواد ورضا علي وأحمد الخليل وحمدان الساحر، وكبار الملحنين من أمثال محمد نوشي وفاروق هلال وطالب القرغولي وغيرهم من عباقرة الفن العراقي».

ثم تحدث عن الفنانين العرب الروّاد، فقال «كنت أعشق أغاني عبدالحليم وفريد الأطرش، وطبعا السيدة أم كلثوم «كوكب الشرق» في المقدمة. وكان لقاؤها بموسيقار الأجيال الدكتور محمد عبدالوهاب قمة الغناء العربي بأغنية «أنت عمري»، وبهذه الاغنية إستطاع الموسيقار عبدالوهاب أن يضمن للشاعر والملحن حقوقهما الفكرية، حيث كانت حقوق الشاعر والملحن قبل ذلك مهضومة لا يلتفت اليها أحد، ولكن عبدالوهاب تمكن بعد تعاونه مع ام كلثوم أن يعيد الاعتبار الى الشاعر والملحن بإعتبارهما ركني نجاح الأغنية».