العم أبو الخير العلبي: رحلة 50 سنة مع جمع العملات النادرة

هواة اقتنائها من السوريين قلة بينما جامعوها بقصد التجارة والاستثمار كثر

رجل مسن ينظر بتمعن إلى واجهة دكان عليها عملات نادرة بدمشق القديمة («الشرق الأوسط»)
TT

في يوم دمشقي شتائي بارد، وفي إحدى أسواق «دمشق القديمة» حيث لا يعبأ الزوار والمتسوقون ببرودة الطقس، بفضل الدفء الذي توفره أسقفها المعدنية والحجرية، تصطف في حميمية الدكاكين المتقابلة.. يقف رجل مسنّ أمام الواجهة الزجاجية لأحد الدكاكين الصغيرة متمعنا بما تعرضه من قطع ورقية نقدية قديمة تعود للنصف الأول من القرن العشرين.

من محيا هذا الرجل السبعيني يبدو أنه يستمتع بمنظر هذه العملات وكأنه يتذكر طفولته معها. فهو يقف أمامها لدقائق قليلة قبل أن يغادر. وبعدما ابتعد دخلنا الدكان لصاحبه «العم» أبو الخير العلبي، وهو ستيني ما فتئ منذ أربعين سنة يجمع العملات الورقية والمعدنية النادرة ويعرضها في دكانه بسوق القباقبية الدمشقي القديم.

استقبلنا «العم» أبو الخير بكلمات الترحيب اللطيفة والمتلاحقة التي تعود أن يستقبل بها زبائنه وزواره حتى يكاد الزائر له يشعر وكأنه يعرفه منذ سنين طويلة. ثم اعتذر عن التحدث كثيرا معنا فهو قد خرج للتو من فترة نقاهة بعدما أجرى عملية القلب المفتوح وعاد يداوم في دكانه ولو لساعات قليلة. مع ذلك، قرر «العم» أبو الخير «فتح قلبه» من جديد ولكن ليس للأطباء هذه المرة. بل لنا ليحدثنا عن هوايته في جمع العملات النادرة، وهي هواية يمارسها عدد متزايد من السوريين في السنوات الأخيرة.

وروى أبو الخير العلبي لـ«الشرق الأوسط» حكايته مع جمع العملات النادرة، قائلا: «لقد أحببت هواية جمع العملات منذ كنت يافعا وبدأت بها منذ نحو خمسين سنة. وبعدها صرت أشتري العملات النادرة من الناس من خلال دكاني، واستطعت جمع آلاف الأنواع، منها ما يعود للقرن العشرين المنصرم ومنها عملات فضية وورقية وهي تتميز بسعرها المرتفع ومعدنية كثيرة يمكن وزنها بالكيلوغرامات». قالها ضاحكا وتابع: «والجميل في هذه الهواية والتجارة التي صرت متخصصا بها وواحدا من قلة قليلة بدمشق لديهم الخبرة بها.. أنها تتيح لممارسها متعة الاطلاع على عملات أيام زمان».

وأضاف أبو الخير «يقدر عدد هواة العملات القديمة في سورية بحوالي 40 هاويا، وهناك هواة يأتونني من دول الخليج وأوروبا باحثين عن عملات يقتنونها، بصفات جيدة خاصة في ما يتعلق بالعملة الورقية.. ومن هذه الصفات أن تكون العملة الورقية نظيفة وغير متشققة وملصقة وغير مثنية من أطرافها أو من وسطها». وبفضل خبرة أبو الخير الطويلة في جمع العملات، فقد صار يميز بدقة الجيد من الرديء منها والنادر من الموجود بكثرة والجديد من القديم. وهو بحكم خبرته يقدم اليوم النصائح لهواة جمع العملات للمحافظة عليها سليمة من العطب والتلف، ومنها ما «جمعه في ألبوم خاص مغلف بالنايلون لتبقى نظيفة، فهي إذا ما تعرضت للتمزق لا يعود لها أي قيمة مادية». ويرى أبو الخير ورغم خبرته الطويلة «أن عالم العملات بحر واسع، فهناك الكثير من العملات العالمية التي تعرض علي أحياناُ ولا أعرفها ولم يسبق لي مشاهدتها من قبل». اليوم، لدى أبو الخير سبعة أولاد، منهم شابان يعملان معه في الدكان ولديهم نفس الهواية «ولكن خبرتهما ما زالت محدودة - يبتسم أبو الخير - ولكنني سأعلمهم أكثر وأزيد من خبرتهم إن شاء الله في المستقبل لكي يحافظا على هواية والدهما».

أبو الخير له رأي في بعض من يعتبرهم «دخلاء» على مصلحة هواية العملات وشرائها ولا سيما أولئك الذين يضعون أرقام هواتفهم في الصحف الإعلانية المحلية ويذهبون للمنازل لشراء العملات. إنه يصفهم بـ«الأغبياء» لأنهم «يعتقدون أنهم من ذلك سيجمعون ثروة طائلة بينما أنا وغيري من القدماء في هذا العمل لم نجمع أي ثروة ولو بسيطة.. إنها هواية محدودة. ثم إن هؤلاء لضعف خبرتهم قد يتعرضون للغش وشراء عملات ليس لها قيمة فيذهب ما دفعوه من مال مقابلها سدى!».

ونترك دكان «العم» أبو الخير لنتجه لدكان آخر قريب منه تشير واجهته الزجاجية إلى اهتمام صاحبه بالعملات النادرة، ولدى دخوله التقينا هذه المرة شابا يعرفنا على نفسه بأنه عبد الرحمن الجلاد (32 سنة). الجلاد اشترط علينا قبل أن نبدأ حديثنا معه من دون أن نصوره شخصيا بل نصور ما نشاء من عملاته النادرة. واحترمنا رغبته، وبدأ بالحديث معنا عن هذه الهواية - التجارة، فقال: «جمع العملات هواية ممتعة وجميلة وثقافة حقيقية، إذ حيث يمكن للهاوي عن طريق العملة معرفة الأحداث السياسية والسياسات التي كانت قائمة في زمن صك العملة، وخاصة بالنسبة للحقبة الفرنسية والعلاقات ما بين البنك السوري اللبناني والفرنسي في تلك المرحلة.. مثلا عام 1942 رفض الفرنسيون طبع عملة سورية فقام السوريون باستبدالها بالطوابع وطبعوا عليها خمسة قروش أو عشرة قروش وتعاملوا بها كقطع نقدية. كذلك صار ينظر إليها كاستثمار، وأقصد بذلك أن من يشتري ويجمع العملات النادرة ويجد بعد سنوات قليلة أن أسعار ما جمعه لم يتغير لن يكون مسرورا.. بينما حين يجد أن سعر ما جمعه تضاعف مرات عديدة - حتى لو لم يبع ما لديه - سيشعر بارتياح نفسي وداخلي لأنه ربح مما جمعه ودفع مقابله المال». الجلاد قدّر عدد «الهواة الحقيقيين الجديين في جمع العملات في سورية بما لا يتجاوز الثمانية أشخاص ويتركز معظمهم في مدينة حلب، بينما هناك العشرات من جامعي العملات للتجارة». وحول أكثر العملات المطلوبة من الهواة شرح الجلاد قائلا «المطلوب للهواة المحليين، وحتى في دول أخرى، العملات الصادرة عن بنك سورية ولبنان التي طبعت منها فئات متعددة من العملة بدأت عام 1925 وحتى عام 1949. بالنسبة للعملة السورية والعملات المسكوكة قبل عام 1925 كان يصدرها ما يسمى البنك السوري وكانت تخصص لسورية ولبنان، وبعد عام 1949 صار لدى سورية عملة خاصة بها تصدرها مؤسسة النقد السوري بينما ظل يصدر بنك سورية ولبنان العملة اللبنانية حتى ستينات القرن المنصرم. وهناك دينار الملك فيصل الذي يعود لعام 1918 وهو نادر جدا».