طبيبان مصريان يتركان رسالة الدكتوراه ويتطوعان لإنقاذ ضحايا

ساقهما حظهما للسكنى بفندق متواضع يطل على ميدان التحرير

الأطباء يتسابقون لإنقاذ المصابين في المستشفى الميداني بمسجد مجاور للميدان وفي الميدان نفسه
TT

جاءا إلى القاهرة لاستكمال جمع المادة البحثية اللازمة لرسالة الدكتوراه، كل في تخصص طبي مختلف. أحمد سعيد، وسامح علي طبيبان من قرية مصرية صغيرة بمحافظة الغربية، وصلا إلى القاهرة قبل 11 يوما ووقع اختيارهما على أحد الفنادق المتواضعة بميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية، لم يعلم كل منهما أن القدر هو الذي ساقه إلى تلك البقعة تحديدا ليكون لهما دور في إنقاذ أرواح الأبرياء وتضميد جراح الشرفاء.

في البداية، اكتفى الطبيبان بمراقبة الأحداث من شرفة الفندق المطلة على ميدان التحرير، لكن تبدل الحال عندما شاهدا الضحايا يتساقطون من المتظاهرين الواحد تلو الآخر وزخات الطلقات النارية تنطلق طائشة في كل مكان. فلم يكن في نيتيهما المشاركة في المظاهرات التي شهدوا مولدها في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، وكانا قد اكتفيا بالمتابعة وسط ذهول تام بما يحدث أسفل الفندق المتواضع الذي يقطنان فيه وفقا للميزانية المحدودة التي وضعاها لمهمتهما الدراسية. لكن أخلاقيات مهنة الطب التي توصي بأن يؤدي الطبيب عمله على أكمل وجه، دفعت بهما إلى قلب العمل الميداني التطوعي ووضعتهما في قلب الأحداث.

يقول أحمد سعيد، المتخصص بأمراض الباطنة، «بعد ساعات من وصولي للقاهرة فوجئت بالمظاهرة الحاشدة، لم أكن أتصور أن الميدان الذي كان خاليا من البشر سيمتلئ عن آخره بهم، وإذا بالهتافات تتعالى وفي قرارة نفسي قلت إنها مظاهرة كباقي المظاهرات التي اعتدناها، وسيمضي اليوم وكأن شيئا لم يكن، لكن كل ساعة كانت تمضي علي في الفندق الذي ظللت حبيسه أتابع بشغف ما يحدث في أرض الميدان، كانت تؤكد لي أنها ليست مظاهرة عادية قوامها مجموعة شباب. وعلى الرغم من أنني في قرارة نفسي لم أكن أنوي المشاركة والاكتفاء بالمتابعة، فقد وجدت أخلاقيات مهنتي تحثني على أن أساعد هؤلاء الضحايا الذين سقطوا نتيجة اعتداء البلطجية الوحشي عليهم».

يضيف سعيد بكلمات يسيطر عليها إحساس بالفجيعة «ما تعرض له المتظاهرون المسالمون خيانة وخداع، فهم شباب عزل والهجوم غير المبرر عليهم أمر استفزني. وعلى الفور، قررت أن أكرس نفسي لمساعدة الضحايا، فقد شاهدت آلاف الجرحى يقاومون على الرغم من إصابتهم ويصرون على البقاء في المواجهة مع البلطجية على الرغم من إصابتهم. نزلت على الفور بكل ما أملك من معدات طبية، فوجدت بعض الزملاء في وسط الميدان هم أعضاء في وحدة طبية متنقلة وقدمت يد المساعدة فرحبوا بي على الفور».

ويؤكد سعيد «لكن ما أسعدني أنني وجدت مئات الأطباء يضمدون جراح المصابين، وفوجئت بكم المساعدات الطبية التي تنهال علينا والتي يقدمها الأهالي من مختلف الطبقات، والحمد لله يقدم الأطباء ما في استطاعتهم ويواصلون الليل بالنهار لمتابعة الحالات، لكن هناك حالات كثيرة كانت حرجة ولم نكن نستطيع إسعافها، حيث إنها تتطلب تجهيزات طبية عالية لإجراء عمليات دقيقة».

أما سامح علي، وهو طبيب تخصصه أنف وأذن وحنجرة، فيقول: «شاركت بعدما شاهدت الظلم الذي تعرض له المتظاهرون، وشعرت بأنهم إخوتي وأنهم في محنة ولا بد من أن أكون بجوارهم، وقررت إلى جانب مشاركتي كطبيب أن أشارك ضمن المعارضين للنظام الحاكم، وقد وجدت أن هناك حالة من التآزر بين المصريين لم أر مثلها منذ زمن، الكل يقدم ما لديه ليؤدي دورا يساند به هؤلاء الأبطال، ولكن للأسف يشوه البعض الصورة الإنسانية الجميلة التي يقوم بها كل الأطباء الشباب هنا وينشرون الشائعات بأننا نتناول وجبات من المطاعم الأميركية وغيره ليشوهوا دورنا الحقيقي في إنقاذ المصابين».

ويستطرد أثناء انشغاله بإحكام ضمادة على جرح قطعي في الجبهة لأحد المتظاهرين «الكل هنا يساند بعضه القبطي والمسلم، لا فرق بينهما، كلنا هنا نخاف على بعض وكأننا إخوة، كما تملكنا الحزن لسقوط ضحايا، وللأسف معظمهم من الشباب الذي جاوز العشرين بالكاد، والأمر الذي يؤثر فينا أن المتسببين في ذلك مصريون أيضا، ومن يسقط منهم نهب لنجدته ثم نسلمه للجيش».

ويقول بثقة وثبات «لولا مساندة المصريين والتفافهم حول المتظاهرين لشاهدنا مجزرة وحشية أخرى كالتي حدثت الأربعاء الماضي، كما أن الأهالي يقدمون كل ما لديهم من أغطية ومناشف ومطهرات طبية، أما زملاؤنا الصيادلة فدورهم لا يقل أهمية عن دورنا، فقد أمدتنا جميع الصيدليات المحيطة بالميدان بكل ما نحتاجه وأكثر».

ويؤكد الطبيبان لـ«الشرق الأوسط» أن مشاركتهما في تلك التجربة قد أمدتهما بالكثير، فالعمل التطوعي فرصة لا تتكرر كل يوم، خاصة في مثل هذا الحدث التاريخي الذي ربما لن يتكرر مرة أخرى، معتبرين هذه المشاركة وساما فخريا على صدريهما.

ومن المشاهد المؤثرة أن تجد طبيبات وأطباء شبابا من مختلف التخصصات جاءوا من كافة ربوع مصر، ووقفوا على أرصفة الميدان، مركز المظاهرات المصرية التي هزت العالم، يحملون حقائب تشمل جميع مستلزمات الإسعافات الأولية التي يحتاجها المصابون، كما يحتضن الميدان مستشفى ميدانيا أقيمت في ساحة أحد المساجد الجانبية، وهو مصلى صغير يسمى مسجد «عباد الرحمن»، لا تتجاوز مساحته 150 مترا مربعا، ويقع على بعد خطوات من الجامعة الأميركية، وقد تحول هذا المصلى إلى مشفى متكامل يحتوي على أقسام طوارئ وباطنة وأسنان وعناية مركزة وعظام وغيرها.

وذكر لنا الأطباء المتطوعون في المستشفى الميداني الرئيسي في التحرير أن عدد المصابين الذين تم حصرهم خلال هذا الأسبوع فقط في النقطة الرئيسية للمستشفى، وصل إلى 1074 مصابا، فضلا عن النقاط الأخرى المنتشرة في أرجاء الميدان.