«بيت الأمة».. قصر التف حوله آلاف المصريين منذ انطلقت «ثورة 1919» الداعية لخروج البريطانيين من مصر، ليحفروا على جدرانه صفحات من التاريخ المصري، وما زالت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، بين حين وآخر، تحتشد أمامه حاليا لأسباب مختلفة، مما لفت الأنظار نحوه وأدى لتزايد زواره.
يعتبر هذا البيت تجسيدا لروح الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين في مصر لما يستحضره في أذهان زوّاره من مشهد خروج الثوار رافعين أعلاما تحتضن رمزي الهلال مع الصليب ضد الاستعمار البريطاني، وزادت أهمية الرمز الذي يمثله بعد أحداث الفتنة الطائفية التي كان آخرها تفجيرا أمام كنيسة القديسين في الإسكندرية مطلع العام الجديد. سُمي «بيت الأمة» بهذا الاسم لأنه كان مسكن «زعيم الأمة» سعد زغلول، الذي شيّده على الطراز الفرنسي في حي هادئ هو حي «الإنشاء» في القاهرة، الذي كانت تقطنه الطبقة الأرستقراطية التركية. وقد شرع سعد زغلول ببناء البيت في منتصف عام 1901 واستكمله في أوائل العام التالي، ثم انتقل إليه يوم الخميس 24 أبريل (نيسان) عام 1902. ولقد كتب الزعيم الوطني في مذكراته أن إجمالي ما أنفقه عليه 4296 جنيها و460 مليما، هي تكاليف تزيد عن ثمن عشرين فدانا زراعيا في ذلك الوقت. وتحوّل «بيت الأمة» إلى متحف عام 1946 بعد وفاة صفية زغلول، زوجة سعد، الشهيرة بلقب «أم المصريين». ثم جرى تجديد المتحف وأعيد فتحه أمام الجمهور يوم 16 يناير (كانون الثاني) عام 2003، ليضم مقتنيات الزعيم الراحل وزوجته.
بمجرد زيارتك للمتحف ستكتشف أن كل ما فيه يعكس حياة سعد زغلول ويجسّد وفاء زوجته، ففي شارع الفلكي، بوسط القاهرة، يقع ضريح الزعيم الراحل ليكون مواجها لشرفة منزله حتى تطل عليه زوجته كل صباح، وهو ما يخلّد أسمى معاني الحب. ويتكوّن المنزل من ثلاثة طوابق، وتبلغ مساحته 3080 مترا مربعا، وتحيط به حديقة، وقد تحوّل البدروم الخاص به إلى مركز ثقافي تقام فيه نشاطات متنوعة.
وكان المنزل قد حوّل إلى متحف بعد عملية ترميم تكلفت 3 ملايين و270 ألف جنيه مصري، ويضم المتحف أثاثا فرنسيا من طراز لويس الخامس عشر، وأثاثا عربيا مطعما بالعاج، ومقتنيات فنية من بينها 12 لوحة زيتية لكبار الفنانين التشكيليين ومنهم: يوسف كامل، ومحمود حسين، فضلا عن مقتنيات شخصية للزعيم الوطني الراحل، والتحف النادرة التي كان يعشقها.
ولن يجد الزائر وصفا للبيت أبلغ من وصف الكاتب الصحافي الراحل مصطفى أمين، الذي عاش طفولته في «بيت الأمة» مع والدته رتيبة، ابنة أخت «زعيم الأمة»، إذ كتب وصفا دقيقا للمنزل في مذكراته المنشورة بعنوان «من واحد لعشرة»، يقول فيه: «كان هذا البيت مصمّما على طراز قصور الأثرياء في فرنسا، فقد كان عميد الأسرة كثير التردد على عواصم أوروبا وحرص أن يكون البيت الذي يبنيه في القاهرة على طراز هذه القصور الكبيرة. واشترى بعض أثاثه من فرنسا وبعضه من فيينا (النمسا) وبعضه من ألمانيا».
وبمجرد دخول المتحف سيجد الزائر تمثالا نصفيا لسعد زغلول من عمل الفنان الروسي يوريفيتش، وإلى جوار التمثال هدية من إثيوبيا (الحبشة) عبارة عن سترة من الحرير الثمين مما يلبسه أمراء الأحباش في الحفلات الرسمية والتشريفات، وكان سعد زغلول يعتز بها كثيرا حتى أنه خصص لها خزانة خاصة تعلق فيها.
ويلي الصالون الكبير غرفة مكتب «زعيم الأمة»، وهو مغطى بطبقة سميكة من الجوخ الأخضر وعليه حافظة أوراق المذكرات التي كان يستعملها وأدوات الكتابة الخاصة به، ومن بينها الريشة التاريخية التي كان يكتب بها، وعليه نظارتان، إحداهما مكبرة والأخرى عادية. وتوجد على المكتب أيضا «منشّة» من الخوص العادي ما زالت في مكانها حيث تركها سعد زغلول، وتحتوي غرفة المكتب أيضا على خزانة تضم مجموعة فاخرة من أدوات الكتابة، وقلم حبر أميركيا أهدته إليه زوجته لكنه لم يستخدمه أبدا.
ويحتضن السلاملك أيضا غرفة المائدة، وقد حرصت «أم المصريين» على الاحتفاظ بمقعده وأمامه الطبق والفوطة والفنجان والملعقة والشوكة، ولم تكن تسمح لأي أحد بالجلوس عليه مهما ازدحمت الغرفة. أما الطابق الأعلى، فأول ما يصادف الزائر فيه هو ستار (بارافان) من الأرابيسك ثم مائدة طعام تتوسط القاعة الكبرى عليها أطقم فضيات والشمعدانات. أما الجدران فقد زينت بلوحات زيتية وصور فوتوغرافية نادرة، منها صور لمقتنيات سعد زغلول التي أخرجت من جيبه بعد وفاته: حافظة مكتوب عليها أول حرفين من اسمه ومصحف صغير في صندوق جميل من المعدن، ومسبحة من الكهرمان الخالص.
وأما غرفة النوم الخاصة بـ«بيت الأمة»، فقد حافظت عليها «أم المصريين» كما هي، حيث يوجد سرير سعد زغلول مثلما كان في حياة صاحبه، وبجواره دولاب (خزانة صغيرة) عليه دورق مياه وكوب ما زالا في المكان الذي كانا عليه يوم لفظ سعد أنفاسه الأخيرة سنة 1927م، وخلفه مقعد وثير كان يضطجع عليه بعد استيقاظه لمطالعة الصحف. وفي الجانب الآخر من الغرفة مجموعة من المقاعد الكبيرة ومنضدة صغيرة، ويظهر إلى اليسار دولاب صغير فيه عدد من زجاجات الأدوية والروائح العطرية.
هذا، ويضم «بيت الأمة» غرفتين للزينة والملابس، من موجوداتهما حوض الغسيل ودولاب للمناديل والجوارب وخلافها، ومائدة الزينة وفي أعلاها درجان صغيران كان يحفظ فيهما سعد نظارته وفوقهما طربوشه في قالبه.
ومن ضمن مقتنيات المتحف الملابس التي كان يرتديها سعد عندما تعرّض لمحاولة اغتيال في محطة مصر يوم 12 يوليو (تموز) عام 1924، وهي عبارة عن قميص من الكتان، وبزّة من قطعتين من الصوف الرمادي المخطّط عليها بقعتان من دمائه. وكان «زعيم الأمة» يحفظ ملابسه الشتوية في خزانة خاصة بغرفة التواليت إلى جانب أريكة وخلفهما مائدة صغيرة كان يضع عليها محتويات جيبه، هذا بالإضافة إلى مجموعة من الملابس التي ارتداها في المناسبات الهامة وأوسمته ومسبحته.