«ليالي الشرق» فرقة تحلق بإبداعاتها في سماء لبنان متناسية معاناتها

مكفوفون يتحدون المجتمع وينالون إعجابه بأسلوبهم الموسيقي

TT

إحساس رائع، عزف ساحر، موسيقى هادئة غالبا ما تحمل الحضور على التصفيق بحرارة لفرقة «كورال ليالي الشرق» عند انتهائها من كل حفل غنائي، كاعتراف مباشر بفاعلية أعضائها المكفوفين ومواهبهم المميزة.

الفرقة التي دخلت عامها الرابع عشر مؤلفة من 14 عازفا وعازفة و11 مغنيا ومغنية، يحرصون بأسلوبهم الفني على تحقيق رسالة ثنائية الأبعاد: اجتماعية لإيصال صورة حقيقية عن المكفوفين لأذهان وقلوب الناس بسلاسة اللحن والنغمة والكلمة الحلوة، وفنية لإبقاء التراث الفني صامدا أمام الموجة المعاصرة العاتية من الفن وذلك عبر توزيعات جديدة للحن.

«نجحنا في تغيير الصورة النمطية الراسخة في مجتمعنا وأثبتنا أنه بإمكاننا النجاح في مجالات عدة كالشخص المبصر، مستبعدين أسلوب الخطابات والمنشورات والندوات لأنه غير مجد»؛ يقول إسماعيل عبد الله مدير الفرقة ورئيس اتحاد جمعيات المعاقين في لبنان.

«مدرسة الرحابنة، فيروزيات، وديع الصافي، نصري شمس الدين، زكي ناصيف، مارسيل خليفة، جوليا، سيد درويش، كلثوميات، موشحات وقدود حلبية».. أغان تراثية متنوعة تعيد لأذهان الكبار وتعرف الشباب بالليالي اللبنانية الطربية الكفيلة بإيصال صدى تصفيقهم إلى المناطق المحيطة بكل حفل.

الانطلاقة كانت في بدايات عام 1997 بعد أشهر من التدريب المتواصل للأعضاء الذين تجاوزوا معياري الأداء وانسجام الصوت أمام لجنة الحكم المختصة والقائمة حتى اليوم.

أما ولادة الفكرة، فأتت بعد مشاركة بعض الأعضاء في ندوة بمركز معروف سعد الثقافي – صيدا وعزوف الناس عن الحضور، فكان جدار من الصمت والإحباط خرقته أغنية زهرة المدائن لسيدة فيروز بصوت إحداهن ليصبح الصوت جماعيا بعد ثوان عدة.

وفي طريق العودة أبدى عبد الله إعجابه بالأداء مقترحا تأليف فرقة من المكفوفين الهواة.. وهكذا كان.

مدير الفرقة لا ينفي استهجان الناس واستغرابهم قبل بداية أي حفل: «لدي إيمان كبير بأن الإعاقة لا تلغي الطاقة، لقد اعتدنا المفاهيم الخاطئة والمواقف النمطية، لكننا مستمرون في مسيرتنا الفنية ولا نطلب سوى النظرة العادلة تجاهنا»، مستذكرا موقفا مؤسفا: «اليوم رأينا المكفوفين يغنون وغدا أتوقع أن يطربنا الخرسان» جملة لا تغيب عن ذاكرة عبد الله خاصة أنها صدرت من أحد كبار المطارنة ذات يوم.

جوائز ودروع تقديرية نالتها الفرقة من جمعيات ومؤسسات خاصة ورسمية بعد إحيائها حفلات شملت أبرز المناطق اللبنانية كطرابلس وجبيل شمالا وزحلة والبقاع الغربي وصور والنبطية ومرجعيون جنوبا وبالطبع بيروت وبعض بلدات الجبل الاصطيافية.

الفرقة التي تتخذ من المدرسة اللبنانية للضرير في بعبدا مركزا لها، بعيدة كل البعد عن السياسة، لكنها في حاجة دائما إلى الاستقرار الأمني والسياسي لإحياء نشاطاتها «نعتمد على جهودنا الذاتية، ولا نتبع أي جهة سياسية، وهذه مشكلة وحل في الوقت عينه، نحن أحرار لكن الثمن هو حاجتنا إلى جهة تدعمنا باستمرار»؛ يعلق عبد الله شارحا موقفه.

واللافت أن الكورال يشكل مروحة جامعة لكل الأحزاب والطوائف والمناطق اللبنانية مع التزام الجميع بعدم التحدث في السياسة مطلقا، لتحل مكانها سياسة تلقي النوتة من قائد الأوركسترا ميليوس عوض.

بلهجة محلية، فصحى، خليجية، مصرية تطرب الفرقة جماهيرها، أداء يؤديه شبان وشابات يحمل معظمهم شهادات جامعية متعددة الاختصاصات.

ومن بين الهواة الذين تحولوا إلى محترفين من يبصر جزئيا ويقدم المساعدة لمن هو مكفوف كليا لإيصاله إلى مكانه على المسرح وخلال ربع ساعة يحفظ الجميع أماكنهم ليتحركوا بأنفسهم.

البعض بإمكانه الرؤية في النهار ليفقدها في الليل، والعكس صحيح عند البعض، كل ذلك لم يمنع أحدهم من نيل صفة الجوكر من المدير حيث تراه متعدد المواهب في الغناء والعزف ليحل مكان أحدهم في حالات الغياب والمرض.

الجميع يمتلك أجهزة كومبيوتر وبرامج ناطقة تساعدهم في التحضيرات. وهم أساسا إما تلامذة موسيقى في بعبدا أو في باقي مدارس المكفوفين المنتشرة في لبنان، عامل كفيل كمادة أساسية للانتساب، شأنه شأن الغناء الذي يخضع للشروط نفسها آنفة الذكر.

واقع الحال يفرض أسئلة عدة ليأتيك الجواب: «إحياء الحفلات كان مجانيا في السنوات الأولى، بعدها أصبح الريع جزئيا أو كليا لنا مع بعض الاستثناءات وذلك بالتنسيق مع الجهات المنظمة»، يوضح من يرى أن الفن أفضل وسيلة لتعبير.

وعن طموحات الفرقة، يكشف عبد الله: «طموحنا المشاركة في مهرجانات بيت الدين وبعلبك محليا وفي مهرجانات جرش وقرطاج عربيا، ونحن فخورون بأنه بات لدينا جمهور في دبي وقطر بعد إحيائنا عدة حفلات فيهما».

العلاقة بين أعضاء الفرقة يصفها عبد الله بالممتازة، لا سيما أنها شهدت 3 علاقات حب أثمرت زواجا أبقى على أصحابه في مواقعهم.

«الموسيقى غذاء الروح، وحين يكون الغذاء فاسدا، يضرب المرض جسد الإنسان» يرى غابي خليل (عازف كمان وأستاذ موسيقى في مركز التدريب - مجاز في الحقوق» الذي تعلم بدوره على يد أستاذ مكفوف. «رصيدنا هو جمهورنا وهو أبرز ما نفتخر به، فالانسجام والاحترام والترحيب متبادل، وهو يكبر يوما بعد يوم بفضل وسائل الإعلام المتنوعة»؛ يقول خليل، مؤكدا أن الفرقة أصبحت قادرة على الإبداع والإنتاج بفضل الله أولا، والحضن الدافئ للفرقة ثانيا، مما جعل رسالتها تدخل قلوب الجمهور بانسيابية.

الجو العائلي لا يغيب عن «كورال ليالي الشرق» إن في الحفلات أو في التدريبات، بحسب دلال حارس (مغنية تؤدي السولو وتغني لفيروز وأم كلثوم وأسمهان) منتقدة نظرة البعض إلى المكفوف: «ما زال البعض يعتبر أن المكفوف هو ذلك الشخص الذي خصصت له زاوية الغرفة للجلوس فيها. أما نحن، فنشكل أكبر دليل على عدم صواب هذه النظرية»، تشير حارس مشددة على شعار «بالجد والعمل يحقق الأمل».