«أوليمبيا».. أول دار عرض سينمائي تشيد في مصر

عمرها تجاوز قرنا من الزمان ولا تزال قائمة

دار سينما «أوليمبيا» في القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

«هي دار وسط بين المصرية والأجنبية، والديمقراطية المتصعلكة والأرستقراطية، والضعف والقوة.. إذ بينما تُرى أجنبية أصحابها، تجد مديريها وموظفيها مصريين، وبينما تلاحظها غاصة بجموع الشعب والطبقات الفقيرة، تلمحها مملوءة بأهل الطبقات المتحررة، فتحار في إيجاد لونها وصفاتها ومركزها الحقيقي، كما تحار كذلك في الحكم عليها من الناحية الفنية.. بأهمية رواياتها التي تعرضها، إذ هي تعرض أصنافا متنوعة من الأفلام الغثة والثمينة، الجديدة والقديمة، العربية والغربية، كالتاجر الذي يبيع مختلف البضائع، لا يهمها في ذلك إلا إرضاء زوارها وروادها بكافة الحيل».

هكذا وصفت مجلة «العروسة» في أحد أعدادها الصادرة عام 1933، دار سينما «أوليمبيا» التي يتجاوز‏ ‏عمرها‏ 100 ‏سنة.‏ وبذا فهي تعد أول سينما متكاملة تشيد في مصر، ولا تزال بنايتها قائمة حتى الآن، تحمل الرقم 32 بشارع «عبد العزيز» بوسط القاهرة قرب ميدان العتبة، وهو الشارع الذي يشتهر حاليا بأنه سوق لأجهزة الهواتف الجوالة والأدوات الكهربائية.

كانت‏ ‏الأرض‏ ‏التي ‏تقوم‏ ‏عليها‏ ‏سينما «أوليمبيا» ملكا‏ لشريف‏ ‏باشا، ‏رئيس‏ ‏وزراء‏ ‏مصر‏ ‏خلال‏ ‏عهد‏ الخديوي ‏توفيق‏. ‏وبسبب‏ ‏عشقه‏ ‏للفن‏ ‏أهداها‏ ‏للشيخ‏ سلامة‏ ‏حجازي ‏لتكون‏ ‏مقرا ‏لأول‏ ‏مسرح‏ ‏فني ‏في ‏مصر.

في عام‏ 1904 ‏كان‏ ‏المسرح‏ ‏الوحيد‏ ‏للتمثيل‏ ‏في ‏القاهرة‏ ‏هو‏ «‏التياترو‏ ‏المصري‏» ‏في ‏شارع‏ عبد ‏ ‏العزيز، ‏ ‏مكان‏ ‏سينما‏ «‏أوليمبيا‏» ‏بعد ذلك‏. ‏وكان‏ ‏الشيخ‏ ‏سلامة‏ ‏حجازي ‏هو‏ ‏مطرب‏ ‏الفرقة‏ ‏التي ‏كان‏ ‏يملكها‏ اسكندر‏ ‏فرح. وصار تياترو شارع عبد العزيز ينتقل من يد ليد ما بين عروض مسرحية وأخرى سينمائية، وكان آخرها فرقة «أولاد عكاشة».

أما عن مالكي هذا المكان، فقد كان أولهم من الأجانب وهما الثنائي باردي وكرياكوس، ثم انتقلت ملكيته إلى حسني الشبراوي، أول مالكيه من المصريين، حتى وصلت الملكية إلى سمير عبد العظيم.. في رحلة تمثل تاريخ مصر السياسي عبر قرن من الزمان.

ولقد شهد المسرح نجاحا قاده الشيخ سلامة حجازي، وفي ذلك الوقت كان الطرب لب التمثيل والغاية منه، ولذا كانت الرواية تفصل عليه تفصيلا وتحشر فيها القصائد والمناسبات، وكانت الليلة تختتم بفصل مضحك يقدمه المرحوم محمد ناجي تشويقا للجمهور. وعندما ترك الشيخ سلامة فرقة اسكندر فرح ليؤسس مسرحه المستقل، حاول الأخير الاستعانة بمطرب آخر اسمه أحمد الشامي، إلا أنه لم يحظ بالنجاح الذي حققه الشيخ سلامة، وعندها قرر فرح الانتقال إلى العروض السينماتوغرافية، خاصة في أوقات توقّف المسرح.

وفي هذا الصدد نشرت جريدتا «الجوائب المصرية» و«الجريدة» هذا الخبر في يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1907، «لما رأى حضرة اسكندر أفندي فرح» صاحب التياترو المصري بشارع عبد العزيز أكثر أرباب العائلات لا سيما السيدات في اشتياق عظيم لمشاهدة السينماتوغراف (الصور المتحركة) ونظرا لعدم وجود محل يليق بها فقد اتفق مع أعظم عارض للصور المتحركة المعروضة باسم (مونديال) وهو السيد بونتيجلي على تقديم أبهج المشاهد وأعجبها مرتين في اليوم.. الأولى الساعة السادسة والثانية الساعة التاسعة والنصف عدا يومي الأربعاء والسبت فإنهما يخلوان من المتعة الثانية لأن جوق المسرح العثماني يقدم في اليومين المذكورين رواياته الشهيرة وسيبدأ عرض الصور المتحركة من مساء الخميس القادم». وبالفعل، قدمت سينما «أوليمبيا» عرضها ‏السينمائي ‏الأول‏ ‏في ‏يوم‏ 10 ‏أكتوبر‏ 1907، ‏ولكن‏ ‏ظلت‏ ‏العروض‏ ‏المسرحية‏ ‏تقدّم فيها أيضا، إلى أن‏ ‏قرر‏ ‏صاحبها‏ المسيو‏ ‏باردي عام 1911 ‏تحويلها‏ ‏إلى‏ ‏دار سينما‏ ‏بالكامل، ‏أطلق‏ ‏عليها‏ ‏اسم‏ «‏أوليمبيا»، رفعت عن السينما فكرة «الفرنجة» وعملت على جعلها مصرية وطنية، فخفضت أسعار الدخول كي يتسنى لجميع الطبقات دخولها، وظلت هذه السينما تعمل حتى بضع سنوات مضت.

أما أول فيلم عرض على شاشة سينما «أوليمبيا» فكان عبارة عن اسكتش يدور حول رسام عمل ساحرا فكان يرسم الصور على لوحة كبيرة، ثم يقدم أعماله السحرية التي لم تتجاوز ألعاب الحاوي الإفرنجي. ولما رأى اسكندر فرح الإقبال عظيما على السينما استحضر فيلما ملونا أعجب المشاهدين الذين كانوا يأتون لمشاهدته أكثر من مشاهدة العرض المسرحي الأصلي الذي كان يعرض معه.

قبل «أوليمبيا»، كان كثيرون - خاصة غير المتعلمين - ينظرون إلى السينما على أنها أشباح وخيالات، بل كانوا يعتبرونها مجرد تقليد لـ«خيال الظل». ويرجع الفضل في محو هذا الأثر من الأفكار إلى سينما «أوليمبيا» التي كانت تعج بالمتفرجين من كل الطبقات، حتى إنها أوجدت أمامها سوقا لبيع الأحذية والأقلام والجوارب والمجلات القديمة.

وعام 1926 صدرت مجلتان سينمائيتان مهمتان: الأولى، هي «نشرة مينا فيلم» في الإسكندرية والثانية هي نشرة «أوليمبيا السينماتوغرافية» في القاهرة التي كان يصدرها حسني الشبراويني مدير دار «أوليمبيا»، وكانت تنشر أخبار النشاط السينمائي في العالم وقصص حياة نجوم السينما ومسابقات للهواة.

ولم تقتصر إدارة سينما أوليمبيا على ذلك، بل كانت أول من أدخلت الترجمة العربية على الشاشة وقد اخترعها المسيو ليوبولد فيوريللو، الموظف بوزارة الأشغال، باستخدام ألواح زجاجية يظهرها الفانوس السحري.

وقد تحدث نجيب محفوظ، أديب نوبل، عن أثر سينما «أوليمبيا» قائلا إنه عرف الطريق إلى دور السينما القاهرية وأهمها سينما «أوليمبيا»، وذكر أنه دخلها لأول مرة بصحبة أبيه، وعندما ظهر القطار على الشاشة آتيا بسرعة رهيبة صرخ فزعا.

في أواخر الأربعينات من القرن الماضي تعرّضت دار سينما «أوليمبيا» - كما تعرّض غيرها من المنشآت - لمحاولات اعتداءات من قبل بعض الموتورين من أبناء الطائفة اليهودية في مصر. فقد حمل المدعو فيليب ناتانسون متفجرات في جيبه وتوجه لتنفيذ عملية إرهابية، لكن لخلل ما في ضبط المتفجرات اشتعلت إحداها في جيبه، فاستغاث ناتانسون بالمارة الذين حاولوا إطفاء النار التي اشتعلت فيه، ومن ثم ألقي القبض عليه وأرشد عن باقي الشبكة بعد استجوابه.

ما تبقى من مبنى دار «أوليمبيا» قد لا يمثل معمارا مدهشا، لكنه بالتأكيد يمثل قيمة تاريخية وفنية كبرى، كونها إحدى أقدم دور العرض القائمة في العالم، كما يؤرخ لجزء مهم من تاريخ السينما في العالم.