ثكنة غورو: سكانها لبنانيون يحلمون بالعودة إلى منازلهم

مسجونون فيها منذ عشرات السنين وتعجز اللغة عن نقل معاناتهم

ألواح الصفيح والدواليب تغطي سطح إحدى الغرف في ثكنة غورو («الشرق الأوسط»)
TT

لا تعرف البسمة وجوههم منذ 35 عاما، يعيشون في بيوت لا تشبه البيوت، فجأة وجدوا أنفسهم في العراء، أسرى صناديق حديدية أو خشبية، إثر الحرب الأهلية التي طالت منازلهم عام 1976 فكان «الهرب ثلثي المراجل».

في فقر مدقع ومعاناة لا تنتهي، يعيش أكثر من 300 عائلة (معظمهم لبنانيون) في ثكنة غورو، الواقعة خلف قلعة بعلبك الأثرية، على مساحة تقارب 26 ألف متر. بعد أن هُجّروا من منازلهم في بياقوت وتل الزعتر والفنار والرويسات والجديدة.

في بيوت صفراء متهالكة، متلاصقة، مبنية عشوائيا ومحرومة بأغلبها من نور الشمس، فيما تسربت مياه الأمطار إلى داخل الغرف من الأسقف المغطاة بالنايلون وألواح الصفيح، بات مشهدا مألوفا لدى ساكنيها منذ عشرات السنين.

«الهواء ملوث، المياه نشتريها من أحد المنازل المجاورة، معظم العائلات عاجزة عن تعليم أولادها حتى في المدارس الرسمية، نظرا للضائقة المادية المزمنة التي نعيشها مع ندرة موارد الرزق، نحن نعيش من قلة الموت» يقول عبد الكريم نون المسؤول الاجتماعي في الثكنة، الذي هُجّر من الرويسات في العام 76، مشيرا إلى مساعدات رمزية تشمل بعض العائلات، وتأتيهم من أحد أبرز الأحزاب في المنطقة.

قمة البؤس، عبارة تستخلصها بعد سماعك لشكوى أحمد النمر (عامل في محل خضراوات - المعيل الوحيد لأولاده السبعة): «لا أحد يسأل عنا، نعيش 10 أشخاص في غرفة واحدة، والدتي تعاني من الضغط والسكري وابني من السكري بالدم، وأنا بعدما كنت سيدها أصبحت أطبل في عرسها كما يقول المثل المصري»، مشيرا إلى ملف وضع على أحد الرفوف يحتوي أوراق منزله في بياقوت، قائلا «هذا كنزي».

أمام هذه الغرفة، التي لا تتجاوز مساحتها 30 مترا، تستوقفك مجموعة من الثياب البالية المعلقة على أحد الحبال، وبجانبه يوجد حرام وضع بمثابة جدار فاصل عن دورة المياه، وبجواره تماما ترى بعض الأواني المنتهية الصلاحية ملقاة على الأرض، يفصل بينها وبين حنفية الماء، شكل مربع من المعدن مخصص للجلي وهذا يعد المطبخ.

أما المياه، فمصدرها برميل أكله الصدأ، في هذه الغرفة يعيش حسين مع والده أحمد «ننام بجوار بعض وكل خمسة يغطيهم حرام واحد، لا براد ولا غسالة أو غاز، أعاني من السكري في الدم وأحتاج إلى أربع إبر يوميا، تركت المدرسة وبدأت العمل منذ أشهر في صالون حلاقة، بعد أن رفضني الكثيرون بسبب مرضي، وبالكاد أؤمن ثمن دوائي».

معظم سكان الثكنة يعيشون الوضع نفسه تقريبا، قصص تراجيدية يروونها لك، ولا فرق بين صغير أو كبير، متعلم أو أمي، رجل أو امرأة.

وليس بعيدا عن منزل النمر، حيث امتد الفقر والجوع إلى منزل فدوى القاق (50 عاما – أرملة) وهي لم ترزق بولد تتقاسم معه الألم والحسرة، دفعها ضيق ذات اليد إلى امتهان التسول واستجداء المعونة «هنا بعض المحسنين أقصدهم بين الحين والآخر فيقدمون لي اللي فيه النصيب، كرامتي وحلمي يتحققان في عودتي إلى منزلي في الفنار»، تشرح وعيناها اغرورقتا بالدموع، وهي تنظر إلى سقف غرفتها الوحيدة المغطاة بألواح الزنك وبعض الدواليب القديمة.

بعبارة «الموت أشرف من هالعيشة»، استقبلتنا أم محمد (45 عاما) خلال الجولة التي رافقنا فيها نون، مطلقة تنهيدة عميقة تعبيرا عن عمق الألم وقسوة الحياة، وهي تسارع بسحب مياه الأمطار المتسربة من سقف منزلها المغطى بالنايلون، بواسطة المجرود والسطل قبل أن تغرق فراش أولادها السبعة بالمياه «لا يوجد لدينا ما نشعله، المدفأة منظر فقط، زوجي مصاب بالديسك وعاطل عن العمل، صرف ما في الجيب بانتظار ما في الغيب، اضطررت للعمل في تنظيف البيوت كي أعالجه وأعيل أولادي، لكن أوضاعنا تتأزم أكثر فأكثر» تختم بصوت بائس.

مظاهر البؤس واليأس، لا تفارق الثكنة الفرنسية المسماة على اسم جنرال الانتداب، فالكهرباء أصبحت نعمة تصل إلى بعض الغرف عبر أسلاك خارجية، يضطر معها القاطنون إلى نزع اللمبة بأيديهم عندما يحين وقت النوم، أما أنابيب المياه فتراها تفترش السطوح والحيطان، نظرا لغياب شبكات المياه داخل الغرف، في حين أن عمر مجاري الصرف الصحي تجاوز الـ 60 عاما.

هذه الحالة من المعاناة اليومية والشقاء، تستكمل عناصرها بانتشار الأمراض (المعدية وغير المعدية) بسبب الرطوبة والعفن (نظرا لغياب أشعة الشمس عن معظم الغرف)، والروائح الكريهة المنبعثة من مكبات النفايات المجاورة.

أما البطالة، فتجدها ظاهرة اجتاحت الشباب وأرباب الأسر، الساعية إلى لقمة عيشها، حتى لو اضطرها الأمر للتضحية بمستقبل أولادها وحرمانهم من فرصة التعليم.

العديد من الشباب يقضون أوقاتهم إما بتدخين النرجيلة أو في ممارسة كرة القدم حسب ما تقول مها نون (30 عاما) في دكانها الصغير داخل الثكنة، والذي تعتاش منه مع والدتها المصابة بالشلل، فيما يرى والدها الذي يصاب بنوبات عصبية يوميا أن المستقبل كله أسود.

حال قاطني الثكنة ينطبق عليه القول المأثور «ارحم عزيز قوم ذل» وهم لا ينفكون يسألون متى موعد عودتنا إلى منازلنا علنا نتخلص من العيش على حافة الكفاف؟

«ننتظر التعويضات البالغة 5 آلاف دولار للوحدة السكنية من وزارة المهجرين كي نغادر المكان لكن حتى اليوم عالوعد يا كمون» يوضح نون الحل المنشود.

إشارة إلى أن آخر إحصاءات دائرة الإحصاء المركزي الصادرة عام 2004، تفيد بأن ما يفوق ربع عدد سكان لبنان يعيش على أقل من 4 دولارات يوميا (28 في المائة من اللبنانيين)، ويصنف 300000 لبناني (8 في المائة من اللبنانيين) تحت خانة الفقر المدقع بمدخول لا يتجاوز 2.4 دولار للفرد في اليوم.

ويبقى الواقع دائما الأكثر صدما وإيلاما، في أحياء وأزقة ما زالت تقاسي ويلات التخلف على مختلف الأصعدة.