تجارة نشطة وانقسامات سياسية عربية في مدينة ييوو الصينية

«سوق الليل» بات يعرف بـ«شارع العرب»

مطعم ومقهى كايرو احدى وجهات العرب والتجار المفضلة في مدينة ييوو الصينية («الشرق الأوسط»)
TT

يتردد صوت أم كلثوم من آخر شارع «سوق الليل» في مدينة ييوو الصينية، مخترقا أصوات المروجين الصينيين لبضائع شعبية.

ييوو مدينة يقارب عدد سكانها المليوني نسمة وتقع في إقليم جيجيانغ، إلى الجنوب الغربي من مدينة شنغهاي، عاصمة الصين الاقتصادية وكبرى مدنها من حيث عدد السكان. أما الشارع الذي بات معروفا باسم «شارع العرب»، الذي يرى فيه الزائر حضورا عربيا عبر مقهى «كايرو» ومقهى «الخليج»، فقد غدا وجهة للتجار الوافدين ومساحة للقاء يومي بالنسبة للعرب المقيمين في المدينة.

ييوو، تعد اليوم أكثر المدن الصينية استقطابا للتجار العرب، كونها تضم سوقا من أكبر أسواق الصين للخردوات والمعدات الصناعية، والإكسسوارات النسائية، والألعاب والهدايا، بالإضافة إلى المعدات الكهربائية. ولذلك صارت وجهة مفضلة بالنسبة للتجار العرب، الذين قرر بعضهم أن يفتحوا لهم مكاتب ثابتة للتجارة المثلثة في المدينة، بينما لجأ آخرون إلى فتح مطاعم ومقاه عربية لاستقطاب الزائرين.

سعيد، المصري الجنسية، لم يكن يتصور حين فتح مقهاه «كايرو» في المدينة قبل سنتين حجم الإقبال عليها. وبحسب كلامه كانت البداية «مغامرة»، لكنه فوجئ بأعداد الزوار العرب، «فحجم زيارات العرب إلى ييوو تفوق كل التوقعات. تتبدل الوجوه كل يوم، حتى تخال أن العالم العربي بأكمله يزور المدينة».

غير أن الأحاديث بين العرب في مقاهي «سوق الليل» العربية، تبدأ من التعارف ونعي الصناعة في معظم البلدان العربية وشكل التجارة فيها، لتنتهي بخلاف في وجهات النظر حول قضايا عربية مصيرية. ويسرد البعض تفاصيل سياسية من بلده، ويسمي أشخاصا لا يسمع معظم العرب بها، في حين ينتقد آخرون أنظمة الحكم والرؤساء وسلوكيات الأجهزة الأمنية، وكثيرا ما تنتهي الجلسة باحتدام النقاش بسبب الانقسام السياسي منذ أول لقاء بين المتعارفين الجدد، في قلب هذه المدينة الصينية، ويتدخل العقلاء ليهدئوا الحوار بين المختلفين، ثم يتكفل صدى كركرة النارجيلة (الشيشة) بإعلان نهاية الجدل.

وسط هذا الاحتدام، يقول عبد المجيد، وهو تاجر سعودي، أنه اعتاد على هذه النقاشات في «شارع العرب» في ييوو، «فكلما زرت المدينة، أسمع النقاش نفسه، رغم تبدل الوجوه»، مبديا أسفه لنقل الخلافات والانقسامات العربية إلى خارج الحدود.

من ناحية ثانية، يبدو أن العرب، حيثما ذهبوا، يتركون بصمات خاصة في الأماكن التي يحلون بها. ولئن كان رواد المدينة العرب قد فشلوا في تعليم الصينيين شكل الانقسام على القضايا السياسية، فإنهم نجحوا بنقل عاداتهم إليهم. فالنارجيلة (الشيشة) باتت شائعة في ييوو حتى في أوساط الصينيين، وتجيد العاملات الصينيات في المقاهي، وخصوصا المحجبات منهن، تحضير النارجيلة بطريقة محترفة. كذلك صارت المساومة على أسعار السلع شائعة تماهيا بالسلوك التجاري العربي. ففي هذه السوق تصادف كثرة من العرب الذين يفاوضون ويساومون على البضائع، ويراقبهم المستهلكون الصينيون بإعجاب ويبدأون المساومة بالطريقة نفسها.. مشهد طريف يضحك له الزائرون العرب لإدراكهم بأن «هذا التقليد بات شائعا في السوق بسببنا»، كما يقول صديق العبد الله، اليمني الذي يزور ييوو للمرة الخامسة.وبمعزل عن السلوكيات الشخصية تحولت هذه المدينة الصينية إلى باب رزق مفتوح بالنسبة لكثيرين، وأهميتها أنها صارت مقصدا للتجار العرب الآتين من المملكة العربية السعودية والكويت وسورية واليمن ومصر والمغرب والعراق ولبنان والجزائر وموريتانيا. ولكي تلبى حاجات الزوار، بجانب المطاعم والمقاهي، عمد البعض إلى فتح مؤسسات لتأمين خدمات مميزة لهم. وحقا، ينتشر في «شارع العرب» اليوم، على سبيل المثال، عدد لا بأس به من صالونات الحلاقة، بينما لجأ آخرون إلى افتتاح مكاتب تجارة مثلثة، تعنى بشراء البضائع وتوضيبها وشحنها عبر الشركات المتخصصة لقاء نسبة مئوية من ثمن السلع.

إبراهيم، اللبناني الجنسية، يعمل في ييوو منذ 5 سنوات، ويمارس نشاطه بمعاونة زوجته الصينية. وهو يقول إنه نقل مقر إقامته من شنغهاي إلى ييوو «بحكم ظروف العمل»، مضيفا: «العمل مع العرب في ييوو لا يقارن بالعمل في شنغهاي. هنا حجم الإقبال أكبر، بالإضافة إلى أن تكاليف العيش أقل، لذلك أجد راحتي هنا ولا يذهب نشاطي سدى». ولعل حال إبراهيم أفضل من حال آخرين لأنه متزوج بصينية، مما يوفر له ظروفا أفضل من تلك التي يتمتع بها أصحاب مكاتب آخرون يضطرون لمغادرة البلاد كل ثلاثة أشهر، والدخول إليها مجددا، تبعا للقانون المحلي. غير أن طارق، وهو سوري الجنسية، يوضح: «ولكن هذه القضية لا تقف عائقا في طريقنا، لأننا اعتدنا على هذا الوضع ونمارس نشاطنا بانسيابية، بمساعدة شركاء صينيين في المكتب».

وفي سياق متصل، يبدو بوضوح أن الصينيين استفادوا من الوجود العربي الكثيف في المدينة، إذ تعلم نفر منهم اللغة العربية، من غير أن يتعلموا الإنجليزية، بغية تلبية حاجات الزوار العرب، حتى في المحلات التجارية. أما من لا يملك منهم مؤسسة خاصة، فإنه يعمل في بيع خطوط الهاتف وتبديل العملة الأجنبية، وغيرها من المهن التي توفر خدمة مميزة للتجار العرب.

هذا الواقع، على أهميته بالنسبة للبعض، يدفع آخرين للتحسر على حال الصناعة في العالم العربي، ويعبر عنه وسام، وهو مصري الجنسية، بالقول: «تخال العالم العربي بأكمله هنا.. أليس معيبا أن لا ننتج سلعا بسيطة في بلادنا كتلك التي نستوردها من هنا؟».