«القبة المرابطية».. أقدم المباني الأثرية في مراكش

بناها المرابطون قبل 10 قرون لتكون «دار وضوء»

«القبة المرابطية» أقدم معالم مراكش الأثرية («الشرق الأوسط»)
TT

ليست مراكش، الحاضرة المغربية العريقة، مجرد مدينة يحددها موقعها الجغرافي على الخريطة.

إنها رمز وتاريخ ممتد بتفاصيله في الكتب وفي جغرافية المكان. فلمراكش - أو «المدينة الحمراء» - تاريخ غني بأحداث صنعت تاريخ منطقة ممتدة بجغرافيتها. ولقد شهدت أحداثا تاريخية استثنائية وعرفت رجالا عظاما غير عاديين في حياة مدينة مجيدة غير عادية.

واليوم، رغم التحولات المتسارعة، التي طالت البشر والشجر والحجر، يرى كثيرون من الذين يزورون مراكش، بين الحين والآخر، أنها ما زالت تحتفظ لنفسها بكثير من أسرارها، ويشددون على أن تناسل البنايات الزجاجية لن يغطي على قيمة وفرادة ما تضمه «المدينة القديمة»، التي يحتضنها قلب «المدينة الحمراء»، من نفائس الحضارة والتراث.

كانت مراكش منذ تأسيسها، على يد يوسف بن تاشفين، قائد المرابطين وأميرهم، قد انطلقت تحفر هيبتها وقيمتها بين مدن المغرب. فارتفعت الأسوار لترافق وتحمي بنايات تشكلت بها المدينة مع المرابطين، الذين ركبوا خيولهم وجمالهم في اتجاه الشمال، قادمين من الصحراء، قبل أن تتواصل الرحلة ويتعزز السلطان، حتى وصلت خيولهم إلى الأندلس.

ومما يحسب للمرابطين أنهم بنوا مراكش، وعززوا الوجود الإسلامي في الأندلس قرونا طويلة بعدما دحروا جند ألفونسو السادس في معركة الزلاقة الشهيرة عام 1086. كذلك يسجل لهم أنهم خلفوا عددا من المباني البديعة التي لا تزال شاهدة على فترة حكمهم للمدينة والبلد. وبين أقدم المباني التي تركوها في «المدينة الحمراء» نجد «القبة المرابطية».

للوصول إلى «القبة المرابطية»، غالبا ما يحتاج لاختراق الأزقة الملتوية في «المدينة القديمة». ومعظم زوار مراكش يفضلون الانطلاق من ساحة جامع الفنا، أشهر ساحاتها، مرورا بـ«سوق السمارين»، قبل الوصول إلى محيط جامع بن يوسف، حيث تتجاور بنايات متحف مراكش و«القبة المرابطية» ومدرسة بن يوسف ودار بلارج، وغيرها من المعالم الأثرية.

وتتميز «القبة المرابطية، بين كل هذه المباني، بأنها أقدم معالم مراكش الأثرية على الإطلاق، إذ يعود تاريخ بنائها إلى القرن الحادي عشر، في عهد السلطان علي بن يوسف المرابطي (1106 – 1143 م). وكان السلطان علي قد شيدها لكي تكون دار وضوء للمصلين الذين كانوا يقصدون جامع بن يوسف، الذي بناه السلطان نفسه، الذي كان قد ورث الحكم عن والده يوسف بن تاشفين، أمير المرابطين ومؤسس مراكش». وتذكر كتب التاريخ أنه وضع الأساس لأول بناء في هذا المكان الذي صارت تؤمه أفواج السياح من كل فج عميق، والذي تنقل كتب التاريخ أنه كان عبارة عن «موضع صحراء رحب الساحة، واسع الفناء، خلاء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا ينبت إلا السدر والحنظل».

حاليا، غالبية زوار «القبة المرابطية» سياح أجانب، من أميركا الشمالية وأوروبا، وجلهم يفضل زيارة «متحف مراكش» و«مدرسة بن يوسف» و«القبة» ضمن جولة واحدة، ذلك أنها تقع على بعد أمتار قليلة بعضها عن بعض، فضلا عن أن أداء ثمن الزيارة للمعالم الأثرية الثلاثة مجتمعة لا يتعدى 5 يوروات. ومن خلال زيارة «القبة المرابطية»، يتعرف السياح على مكان الوضوء المعروف بـ«الميضاء» و«خزان الماء».

ترتفع بناء «القبة» وسط صحن محاط بـ19 ميضأة عمومية، كانت مطمورة تحت أمتار من الأنقاض والخرائب، ولم تتم إزالة الأتربة عنها إلا في منتصف القرن الماضي. وتضم «القبة»، التي تتميز بمخططها المستطيل، وطولها البالغ 7 أمتار ونصف المتر، وعرضها الذي البالغ 5 أمتار ونصف المتر، وعلوها الذي يبلغ 12 مترا، ومستويين متمايزين بوضوح، يفصل بينهما، على ارتفاع 5 أمتار، شريط زخرفي رقيق أملس وقليل البروز، وتتكون الزوايا الخارجية للمستوى الأول من 4 دعائم متينة.

ويتوسط «القبة» صهريج للوضوء يحيط به مجرى لتصريف المياه المستعملة. وقد كشفت الحفريات عن 4 صهاريج أخرى تعلو الصهريج الأول، كل واحد كان يمثل طبقة أرضية جرى الاستغناء عنها. وتتميز عمارة «القبة» بتشكيلة جد متنوعة من الأقواس جاءت في حلة متناسقة تنم عن مدى حنكة وبراعة مهندسيها، ناهيك عن زخرفتها التي أكسبتها مظهرا جماليا فريدا، ساهم فيها التوريق والكتابة والتسطير لتشكل، بذلك، لوحة متناهية الدقة والتوازن.

هذا، واستمدت «القبة» متانتها وصلابتها من المواد المستخدمة في بنائها، إذ ساهم حجر «جليز» (نسبة لجبل يقع خارج المدينة القديمة) والآجر (القرميد) والخشب المضاف إلى خليط غني بالجير والرمل في الحفاظ على هذه المعلمة ومقاومتها لعوامل الزمن.

وتمثل «الميضاء»، بشكلها الحالي، بقايا حجرات كانت تحيط بـ«القبة»، وكان موضع مدخل حجرات الوضوء يضمن تفادي نظرات الآخرين. وتشهد آثار «الميضاء» على مدى أهمية التجهيزات التي كانت تتوفر عليها المنشأة كالقواديس الفخارية ذات الأحجام المتباينة، التي أخذت مستويات مختلفة، مما يدل على مدى تطور تقنية تصريف المياه وتوزيعها، التي زادت من تعقيدها التغييرات التي طرأت على هذه «الميضاء» عبر القرون.

أما «خزان الماء» فهو عبارة عن بناء كان يزود باقي ملحقات جامع بن يوسف، القريب، بالمياه. وكان الماء يصل إلى الخزان عبر فوهة متصلة بـ«نظام الخطارات»، أعدت بالجانب الجنوبي داخل البناية، ومن ثم يتدفق على علو متر تقريبا من الأرض، عبر منحدر بني من الآجر لتجنب تصدع الخزان، الذي يغطيه قبو ذو فتحات مخروطية تتيح دخول الضوء. كما أعد في الجزء العلوي للجهة الغربية باب يقود إلى درجين يمكن بواسطتهما الولوج إلى الخزان.

زيارة «القبة المرابطية» تؤكد أن متانة وصلابة المواد المستعملة في بنائها والتي جعلتها تقاوم عوامل الزمن، ربما باتت تحتاج إلى بعض العناية من طرف القائمين على شأن التراث في المدينة والبلد، وذلك كي لا تتداعى، بل تبقى، هي وغيرها من البنايات الأثرية في المدينة، شاهدا ودليلا على قيمة الحضارة المغربية وثرائها.