فريدريك فاهسيان.. «الخواجة» الأرمني.. آخر «جراحي» البيانو في مصر

يعتز بـ«تطبيب» بيانو أم كلثوم وعبد الحليم حافظ

فريدريك فاهسيان.. «جراح» البيانو.. يتفحص أنين أوتاره وآلامه أثناء عمله («الشرق الأوسط»)
TT

«جرّاح موسيقي».. هكذا ببساطة يمكن أن نصف عمل هذا الرجل الذي يحمل بيده حقيبة صغيرة فيها أدوات خشبية قديمة تساعده على تشخيص «مرض» آلة البيانو، ومعرفة أسباب أنينه الذي يجعل اللحن يدخل في متاهة النشاز.

ورغم تعدّد الألقاب التي يطلقها عليه العاملون معه، ودقة التخصّص وحساسيته المرهفة، فإن «الخواجة» فريدريك فاهسيان يفضل لقب «الفنان». فهو لا يعمل على تصليح البيانو أو شدّ أوتاره التي ارتخت بحكم الاستخدام وعامل الزمن، بل يعالجها ويعيد ضبطها... ولا يُطلق على مهنته «فن ضبط أوتار البيانو».

تبدأ عملية جراحة هذا الآلة الموسيقية عندما تفتح ومن ثم تظهر الأوتار الداخلية، وهنا يبدأ «الدكتور الفنان» في جس نبض الوتر بالنقر على المفتاح الخاص به. وبأذن خبيرة يعرف علة كل وتر، فيحضر أدواته الجراحية لشد كل وتر على حدة، وضبطه بحسب إيقاع النوتة أو النغمة الخاصة بكل مفتاح.

لدى «الخواجة» فريدريك أداة تشبه الكمّاشة يمسك بها مفتاح الأوتار لشده أو إرخائه حسب حاجة كل مفتاح، ثم يحضر قطعة خشب صغيرة يثبتها بين أوتار كل مفتاح، ويظل ينقر على أصابع البيانو وينصت لكل نغمة تصدر عنه، وهو يضبط شد مفتاح الأوتار إلى أن يجد النغمة المطلوبة، ثم يعيد الكرّة مرة أخرى للأصابع التالية، ثم يعيد النقر على الأصابع التي سبق له ضبطها لكي يتأكد من انسجامها مع الأخريات فلا يصدر أي مفتاح نغمة نشاز.

يستلزم عمل «الخواجة» فريدريك فاهسيان تركيزا ودقّة شديدين، فهو يعتمد في مهنته أساسا على حاسة السمع والفطرة الفنية. وفي العادة يكون لكل مفتاح في البيانو ثلاثة أوتار، ويحتاج كل وتر إلى ضبط خاص ليصل إلى نغمة معينة تنسجم مع باقي الأوتار ومع نغمة كل مفتاح.

من أصول عمل فاهسيان، طبعا، قراءة النوتة الموسيقية وإتقانها، وهذا إلى جانب العزف على البيانو، مما يوفر له دراية بآلة البيانو أفضل من دراية غيره من فنيي تصليح الأدوات الموسيقية. وفضلا عن كل هذا فإنه يتقن ست لغات.

ولكن منذ بضع سنوات بدأت مهنة فاهسيان سيرها على طريق الاندثار، حتى إنه بات اليوم الوحيد الذي يضبط أوتار البيانو معتمدا على حاسة السمع والخبرة. ففي وقتنا الحاضر إما أن يُصار إلى إبدال الأوتار للاستسهال، أو يوكل لعامل تصليح وتريّات أمر شدّها بطريقة عشوائية، وهنا يمكن أن يشدّها بقوة كبيرة تقطع الوتر، أو لا يشدها بالقوة المطلوبة فلا تكون نغمة المفتاح دقيقة.

ثم إنه على الرغم من كبر سن «الخواجة» لم تفقد أصابعه «حساسية الصنعة»، أو أذناه حس الفنان في استشعار وقع كل نغمة على مفاتيح البيانو. ومع أنه شارف على إنهاء العقد السادس من عمره فما زال لديه إصرار الشباب في العمل على الأوتار المستعصية وشفائها من عوامل الزمن، فلا يرهقه الوقوف لمدة قد تصل إلى أكثر من نصف ساعة لضبط وتر مفتاح واحد.

يقول فاهسيان: «في الماضي كان البيانو موجودا في أغلب البيوت الراقية تقريبا، وخصوصا الطبقة الأرستقراطية. وكان من القطع الأساسية في جهاز العروس، وكان الناس يهتمون كثيرا بتعليم أولادهم الموسيقى، إذ قلما كنت تجد فتاة لا تجيد العزف على البيانو. وأيضا كان تذوّق الموسيقى في الماضي أكبر وأرقى بكثير من الوقت الحاضر، وكانت آلة البيانو عنصرا أساسيا في المدارس والنوادي».

ثم يضيف: «الفرق الموسيقية وعازفو البيانو كانوا منتشرين في المطاعم والفنادق بنسبة أكبر منها في وقتنا الحالي، وكنت أعمل أكثر. ولكن الآن يندر الاستماع إلى فن عزف البيانو الراقي».

ينتمي فريدريك فاهسيان - كما يدل اسمه - إلى الجالية الأرمنية التي نزحت إلى مصر من تركيا إبان الحرب العالمية الأولى بسبب المجازر التي تعرّض لها الأرمن هناك، كما نزحت جاليات أخرى إلى بلاد الشام وأوروبا والأميركيتين. وورث فاهسيان وأخوه مهنة تصليح الآلات الموسيقية عن والدهما جلبير فاهسيان، عندما لم يكن يعمل بهذه المهنة في مصر سوى الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين والأرمن واليونانيين. ومن أشهرهم في الماضي كان «الخواجة» بابازيان الذي كان يعمل في منطقة وسط البلد، وكان لديه محل معروف.

ولقد ولد فاهسيان في مصر، واستخرج بطاقة شخصية وخدم في الجيش لفترة في عقد الخمسينات، وعمل عازفا على البيانو في النادي العربي للموسيقى تحت قيادة عازف الكمان المصري الشهير أحمد الحفناوي في وسط البلد. ومارس في النادي مهنته في صيانة الأدوات الموسيقية، وأصبح معروفا في الأوساط الموسيقية، ولدى عامة الناس، حتى أطلق عليه المصريون حينذاك «مسيو جون» لصعوبة نطق اسمه فريدريك.

في منتصف حديثه يتذكر فاهسيان فجأة أنه عمل لدى بعض المشاهير، لكنه يعتبرها أشياء عرضية في حياته، وربما تحمل ذكرى طيبة، فيقول: «ذهبت مرتين إلى سيدة الغناء العربي أم كلثوم لأضبط أوتار البيانو الخاص بها في فيلتها بحي الزمالك، وذلك عن طريق الموسيقار أحمد الحفناوي عندما كنت أعمل في النادي العربي للموسيقى أثناء خدمتي بالجيش. وأعطتني أم كلثوم بعد إصلاح البيانو ثلاثة جنيهات، وكان هذا مبلغا لا بأس به وقتها». ويضيف: «وذهبت أيضا إلى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وكان في غاية اللطف معي. وفي منتصف الستينات ذهبت إلى فريد الأطرش على الرغم من أنه كان يفضّل العزف على العود، لكنه كان يعزف على البيانو بمنتهى العذوبة أيضا». ثم يشير إلى أنه تعامل أيضا مع بعض المطربين الجدد، ومنهم قبل بضع سنوات الفنانة التونسية لطيفة لإصلاح البيانو الخاص بها.

لكن ما يقلق اليوم «الخواجة» فريدريك فاهسيان، «جرّاح» البيانو المخضرم، الذي يعمل من منزله منذ عدة سنوات، أن مهنته أصبحت في طي النسيان. فقلّما تحرص الأسر الآن على اقتناء البيانو، لأنه يحتل مساحة ليست بصغيرة في البيوت، إلى جانب وجود بدائل أخرى أقل حجما ولا تشغل مساحة في المنازل مثل البيانو الإلكتروني أو الأورغ (الأرغن)، كما أصبح الاهتمام بالدروس الموسيقية في المدارس قليلا، وتكون في أغلب الأحيان دروسا نظرية قلما يتخللها تطبيقات عملية على الأدوات الموسيقية.