الإسمنت المسلح يزحف على المناطق الخضراء في المدن البوسنية

زحف الأبنية الحديثة «إرهاب» يمارس على المساحات الخضراء

بقعة خضراء مهددة بزحف المباني الحديثة («الشرق الأوسط»)
TT

تزحف الأبنية الحديثة المشيدة بالإسمنت المسلح، بلا توقف ولا هوادة، على المناطق الخضراء داخل المدن في جمهورية البوسنة والهرسك وغيرها من مدن البلقان، لتختفي الخضرة وتحل محلها عمارات شاهقة. والمشكلة مع هذه العمارات أنها لا تقلص المساحات الخضراء وتقتلها فحسب، بل تزعج كثيرين من سكان المباني السكنية وتمنع عنهم الشمس، وتقلص مساحات الرؤية الممتدة عبر الأفق. فكثيرون من السكان، ولا سيما من يقيمون في الطوابق المنخفضة نسبيا، كانوا يتمتعون، كما قالوا لـ«الشرق الأوسط»، برؤية الحركة في العديد من الشوارع، وجغرافية العديد من المدن، والمناظر الخلابة التي اختفت فجأة.. فباتوا محاصرين بالكتل الإسمنتية.

منصور بوتولياك، عضو جمعية «مدينتنا الخضراء»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «منطقة علي باشينو، كانت أرض وقف، وكان يطلق عليها اسم ساحة علي باشا. ولكن قبل الألعاب الأولمبية الشتوية التي احتضنتها سراييفو عام 1984، جرى السطو على مساحات شاسعة من الأرض لتشييد عمارات سكنية.. ومنذ ذلك الحين والمساحات الخضراء تتقلص شيئا فشيئا، ونخشى الآن أن تختفي تماما».

وذكر بوتولياك أن «سراييفو لم تكن مدينة فيها حدائق، بل كانت عبارة عن حدائق في وسطها مدينة، أو تتخللها أحياء مدينة، بيد أن المساحات الخضراء تتقلص باستمرار». وأضاف «إذا ما عدنا إلى تاريخ سراييفو، نجد أنه كان فيها مضمار لسباق الخيل، وحدائق تحيط بكل 200 أو 300 متر مربع من المباني. غير أن المساحات الخضراء أخذت تتلاشى أمام اتساع المعمار وزحف المباني. وخلال السنوات الأخيرة، استهدفت المناطق التي تفصل المناطق السكنية عن طرق المواصلات، والشوارع الكبرى، حيث كانت ساحات للعب الأطفال واستجمام الكبار وساحات خضراء خلفية للمباني السكنية.. ولكن الكثير من هذه الساحات تحول إلى صالونات لمعارض سيارات ومحلات تسوق (السوبر ماركت) وبنوك وفنادق وغيرها».. مع أن معظم السكان يؤكدون أن غالبية أراضي المناطق الخضراء تابعة للبلدية.

وهنا علق بوتولياك قائلا «كل هذه الأراضي تابعة للبلدية، وبالتالي، الذي يسيطر على البلدية عبر الانتخابات يسيطر على الأراضي.. ويفعل بها ما يريد ويمكن أن يبيعها، بأسعار بخسة، على حساب الدولة، مقابل الحصول على عمولة كبيرة». ولقد ذهبت محاولات السكان سدى، وهم يسعون دون طائل لوقف زحف الإسمنت المسلح على المناطق الخضراء المحيطة بمقار سكنهم».

من جهة ثانية، قال المواطن مفيد نعيماريا «إن عملية الاحتجاج لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب. إنها منحصرة في عدد قليل من السكان، بينما القضية تهم جميع سكان المدن.. المناطق الخضراء من المفترض أن تكون حدائق وأن يعتنى بها. ولكن بدلا من ذلك، يتسابقون على بناء المراكز التجارية والبنوك والفنادق»، معتبرا أن «زحف الإسمنت المسلح على المناطق الخضراء إرهاب يمارس على المساحات الخضراء».

وسخر ياسمين بوليتش، وهو أيضا مواطن مقيم في سراييفو، من الإجراءات التي تقوم بها البلديات لحماية المناطق الخضراء، فقال «هناك ما يسمى بشرطة البيئة التي تعاقب من يدوس على المناطق الخضراء، أو يوقف سيارته عليها، إلا أنها تغض الطرف عن سحق المناطق الخضراء بوحشية وبلا رحمة وإلى الأبد».

وبالفعل زارت «الشرق الأوسط» عددا من البلديات في مناطق الجمهوريات المستقلة التي كانت جزءا من يوغوسلافيا السابقة، لكنها لم تظفر برد رسمي واحد.. فالجميع يخشى الظهور في وسائل الإعلام، حتى وإن كانت أجنبية، أما الإجابات المقتضبة، التي رفض أصحابها تسجيلها، فتدور كلها تقريبا حول أن «الأرض ملك للبلدية، وهي الجهة الوحيدة المخولة بالتصرف فيها».

غير أن هذا الحق الذي تمارسه البلديات يشكو منه السكان، ليس دفاعا عن البيئة وعن المناطق الخضراء فحسب، بل دفاعا عن مصالحهم الشخصية، إذ قال أحد السكان المتضررين، واسمه نجاد: «هذه الخراسانات حرمتنا من الشمس، وعندما تهب الرياح تكون أقوى من السابق.. عندما لم تكن هنا هذه الجبال الاصطناعية»، وعما إذا كان السكان قد احتجوا، أجاب «نعم، احتججنا ولكن من دون فائدة، ولم نحصل على أي تعويضات بسبب هذه الأضرار».

بدوره، قال إلياس تشوروفيتش، وهو من مدينة بانيالوكا البوسنية (240 كيلومترا شمال سراييفو): «الناس احتجوا.. ولكن الشرطة فرقتهم». وتابع مشيرا إلى أحد المباني الضخمة «عند بداية بناء هذا المشروع، وهو صالون لبيع السيارات، كانت الشرطة مرابطة قرب المكان 24 ساعة بموجب أوامر من جهات عليا». وأردف «حتى موقف السيارات صودر لصالح هذا الصالون، والناس يركنون سياراتهم الآن في أماكن يمنع الركن فيها، وبالتالي، فهم معرضون لدفع مخالفات مما يزيد من معاناتهم».

إلى جانب العديد من المباني التي زحفت على المناطق الخضراء في المدن البلقانية، ثمة المزيد من المشاريع الساعية لالتهام ما تبقى. وعلمت «الشرق الأوسط» أن بعض المشاريع أوقف تحت ضغط احتجاجات السكان، إلا أن هذه المشاريع محاطة بالأسوار الحديدية والسياجات، مما يعني أن وقف البناء، ليس استراتيجية، وإنما هو محاولة مؤقتة لامتصاص غضب السكان. فإذا هدأ السكان.. استؤنفت أعمال البناء من جديد.