أبو الخير.. أشهر بائعي العطور في دمشق.. من زبائنه جيمس بيكر وليلى علوي

كتبت عنه مجلات أجنبية تحقيقات وحوارات

«أبو الخير» الغبرة.. في دكانه الدمشقي لبيع العطور («الشرق الأوسط»)
TT

ينظر إليه بشيء من الاستغراب والدهشة كثيرون ممن يعبرون أمام دكانه الصغير عند زاوية استراتيجية بـ«دمشق القديمة» في قلب العاصمة السورية. وهنا يلتقي سوق البزورية مع سوق الصاغة القديم مع قصر العظم الشهير.

وللمستغربين والمندهشين عذرهم في ذلك، لأن «العم أبو الخير» محمد خير الغبرة (67 سنة)، بائع العطر المخضرم الشهير، يجذب انتباه العابرين من خلال تصرفاته الطريفة وخاصة رشه للعطر على زبائنه، بل وكل من يتوقف ولو لبرهة أمام دكانه، من دون أن تفارق الضحكة العريضة مبسمه.. ثم إن «أبو الخير»، الذي يمارس هذه المهنة منذ نصف قرن في دكانه الصغير، يرفق ضحكاته وعادته المحببة بعبارات ترحيب جميلة وبلغات أجنبية يجيد بعضها بشكل مقبول، كالإنجليزية والألمانية والتركية.

والأطرف هنا، أن من يدفعه فضوله للاقتراب والتحدث مع «أبو الخير» بقصد الاستفسار عن عطر معين أو شرائه سيستمع منه مباشرة إلى نكتة «حمصية» يرويها للزبون - وقد يروي أكثر من نكتة - في فترة انتظار تعبئة زجاجة العطر، التي قد تستغرق من «أبو الخير» نحو ثلاث دقائق، كما يريه عددا من المجلات الأجنبية التي كتبت عنه تحقيقات وحوارات مع صور له ويتباهى «أبو الخير» بها ويحتفظ بأعدادها. والواقع أن كثيرين من الزوار والسياح يمرون أمام الدكان، ذلك أن المنطقة التي يقع فيها تعد من أهم المقاصد السياحية في دمشق القديمة.

«أبو الخير» زارته «الشرق الأوسط» في دكانه، وأجاب عن أسئلتنا من دون أن يفوته الرش من زجاجة عطر من الياسمين الدمشقي علينا وعلى عدد ممن تجمهروا أمام دكانه.. سواء بغرض الشراء أو بدافع الفضول. وروى «أبو الخير» الغبرة حكايته مع العطر وحكاية عائلته الدمشقية التي عرفت منذ عشرات السنين بتخصصها بتحضير وبيع العطور، إذ يمتلك العشرات من أفرادها محلات تأخذ جميعها لقب الغبرة في أسواق دمشق الراقية والشعبية، ويعتبر «أبو الخير» عميدها الحالي.

وقال محمد خير الغبرة، ساردا «منذ عام 1952 وأنا أعمل في دكاني هذا. وكنت قد ورثت مهنة تحضير العطور وبيعها عن أجدادي الذين كانوا يقطرون الزهور البلدية، وخاصة الورد الشامي والياسمين، وكانوا ينتجون ماء الورد الطبيعي الذي يستفاد منه في نواح جمالية وصحية خاصة للنساء، مثل دهن البشرة به، أو عجنه مع الأعشاب لتحضير الكريمات الصحية التي تدلك بها بشرة الوجه، وتحضير العطر منه. وكذلك استخدام ماء العطر في الخشافات لدى محضري وبائعي العصائر الطبيعية، وتجفيف الورد الشامي وخلطه مع الأعشاب لتقديم خلطة من الزهورات». وأردف «من هنا كانت انطلاقة عائلتي مع العطر، ولكن كان ذلك في خمسينات القرن الماضي - يتنهد «أبو الخير» مع ابتسامة خفيفة هذه المرة - ففي السنوات الخمسين الماضية كان لا بد لعائلتنا أن تتطور مع تطور رغبات الناس وطلباتها من العطور. فقد ازداد الطلب على العطور الأجنبية، وعليه لجأنا إلى تطوير الأنواع المحلية لكي تتناسب مع الأنواع الأجنبية المعروفة من العطور. وهذا سبق سجل لعائلتنا يعرفه الدمشقيون من خلال تقديمنا الأنواع الأجنبية من أشهر العطور المعروفة مع نكهة محلية، مصنعة بأيد دمشقية».

ثم قال «المعروف هنا أن جميع العطور قبل نصف قرن كانت تستخرج من الأزهار المحلية كالورد الشامي الجوري والفل والياسمين والزنبق والنرجس والبنفسج وغيرها، أما حاليا فجميعها تعتمد على استيراد (روح العطر) (الإسانسات) لأشهر أنواع العطور العالمية، ونعكف نحن على تحضيرها في زجاجات مختلفة الأحجام مع مستلزمات التحضير، وحسب رغبة الزبون في كمية وكثافة ما يريده من العطر. وبالطبع، نحن نبيع الزجاجة بسعر أدنى بكثير من سعرها فيما لو كانت مستوردة».

وردا على سؤال طرحناه عن سبب وجود زجاجات عطر بلدي في إحدى زوايا الدكان ملصق عليها كلمات مثل الياسمين والبنفسج، أجاب «أبو الخير» بضحكته العريضة «هذه لها زبائنها وهم بشكل خاص السياح الأجانب وبعض السوريين من كبار السن الذين لا يستخدمون إلا العطور البلدية». واستطرد معددا باعتزاز زبائنه من الشخصيات العربية والعالمية التي اشترت منه العطور البلدية، ومنهم - كما قال - «حفيد تشرشل الذي اشترى عطر ياسمين ووردا شاميا وغاردينيا قبل نحو شهر، ووزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر والمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر والشيخ جابر الأحمد الصباح أمير الكويت الراحل والممثلة المصرية الشهيرة ليلى علوي».

وسألناه عن سر طريقته الخاصة في استقبال الزبائن، فأجاب بضحكة أكثر اتساعا «هذه موهبة وعطاء من الله - عز وجل - وهي عادة تلازمني منذ بدء ممارستي لمهنتي هذه التي ورثتها عن والدي. وحتى مع الأصدقاء وفي الجلسات الاجتماعية أضحك دائما وأمزح وأروي النكات.. فمحبتي للناس طبع في داخلي. ولذا عندما أبيع أو أحضر زجاجات العطور فإنني لا أنظر للزبون من منطلق أنه شخص جاءني لدقائق ولبيت طلبه ومضى، بل أتعامل معه كصديق أعرفه منذ سنوات ويهمني أن يكون مسرورا إذا وجد أمام دكاني، ويسعدني أن يضحك حتى لو جاءني حزينا».

ولا يكتفي «أبو الخير» بالطريقة المميزة للتعامل مع زبائنه، بل إنه يحرص أيضا على أن يقدم لهم النصيحة في نوع العطر الذي يودون شراءه إن لم يكن لديهم دراية بطبيعة العطور وروائحها. وهنا قال شارحا «هناك عطور مختلفة لا تناسب كل شخص، وإنما يعتمد الأمر على شكل الشخص وعمره ومهنته والوقت الذي يريد فيه استخدام العطر.. فما يصلح للعمل غير ما يصلح للسهرات والمناسبات الاجتماعية.. وأنا لا أختار له عروسة أو لها عريسا بل أختار العطر المناسب لهما». ثم حكى طرفة حصلت معه، وهي أن زبونة دائمة وظيفتها مديرة مدرسة ما كانت تشتري إلا العطر الرجالي! وعلق قائلا «.. وهكذا كانت تشبه أمي عندما كانت ترتدي طربوش أبي!».

بالمناسبة، يحمل «أبو الخير» الغبرة، الذي احترف بيع وتحضير العطور، إجازة جامعية من كلية العلوم من جامعة دمشق قبل أربعين سنة. وعمل لفترة قصيرة في مهنة التدريس بمدارس مدينة حمص، إلا أنه قرر فيما بعد ترك مهنة التدريس والتفرغ لمهنة الآباء والأجداد. والشيء نفسه فعله أبناؤه الأربعة، الذين يحمل بعضهم شهادات جامعية في الحقوق والاقتصاد، لكنهم ساروا على خطاه، ففتح كل منهم دكانا لبيع العطور، مثل أبيهم، وأيضا أبناء أعمامهم من عائلة الغبرة. وهنا حرص «أبو الخير» على التأكيد على أن عائلته هي من طور مهنة العطور وتركيبها وتجديدها وتنويعها بما يتماشى مع العصر الحالي، وبروائح العطور الحديثة. واليوم يتجاوز عدد العاملين بالعطور من عائلة الغبرة ثلاثين شخصا لديهم دكاكينهم في دمشق وورثوها أبا عن جد.