السوري بشار منافيخي وثق لدمشق منذ العصر العثماني

بورقيبة عاش في بوابة الصالحية.. وأول دار سينما افتتحها جمال باشا عام 1916

بشار منافيخي ومقتنياته («الشرق الأوسط»)
TT

يجتهد كثيرون من السوريين، منذ سنوات، بالتفرغ لجمع ومتابعة كل ما له علاقة بأحداث التاريخ القريب، وتحديدا منذ نهاية القرن الـ19 وحتى منتصف القرن العشرين، بمختلف تفرعاته السياسية والاجتماعية والثقافية. ومنهم من جعل ذلك همه الأول من منطلق الهواية والتميز عبر تقديم المحاضرات والندوات. لكن على الرغم من قلة عدد هؤلاء فإنهم يتركون بصمة متميزة في الحراك الاجتماعي والثقافي السوري.

بين الناشطين في مجال التوثيق التاريخي: بشار منافيخي، السوري خمسيني العمر، الذي تمكن، منذ أكثر من ربع قرن، من توظيف هواياته واهتماماته بإبراز الكثير من أحداث التاريخ القريب وشخصياته الفاعلة التي كانت مجهولة أمام الناس، كما اهتم كثيرا بجمع مفردات التراث.

خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قال منافيخي، شارحا منطلق اهتمامه وهوايته في هذا المجال قائلا: «ما حفزني للاهتمام بمفردات التاريخ القريب، ومن ثم جمع وتوثيق كل ما له علاقة به هو والدي، الذي كان يخدم في جيش الشرق أيام الانتداب الفرنسي؛ فقد كان يجمع صورا وطوابع قديمة وكتبا مخطوطة. وهكذا تولد عندي فضول كبير بجانب الرغبة بتقليد والدي. ولقد بدأت بجمع مفردات التراث السوري منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، ولاحقا صرت أتجول على دكاكين دمشق التراثية وألتقي أصحابها ممن لديهم مقتنيات تراثية. وكان أحدهم مصورا في منطقة القنوات يدعى خالد الشوربجي، وكان يعرض في واجهة دكانه صورا للرؤساء والملوك العرب وللشخصيات الأدبية والاجتماعية فاشتريت الصور منه، من خرجيتي اليومية. وعندما لاحظ اهتمامي بالموضوع قدم لي مقتنيات نادرة كانت بحوزته كلها تقريبا غير معروض.. منها صحف ومجلات وكتب قديمة».

وتابع بشار: «بعدها تحول الموضوع عندي من هواية إلى احتراف؛ فقد باشرت منذ سبعينات القرن الماضي، بجهد شخصي، بتوثيق رحيل الزعماء والملوك والشخصيات العربية المهمة، جامعا صورهم وكل ما له علاقة بهم، وأصنف ما أجمعه في كراس وألبوم كبير، ومن ثم وثقت الأماكن الأثرية والتاريخية في دمشق، وكذلك معالمها، ووثقت أيضا زيارات الأدباء العرب المشهورين لدمشق والمحطات البارزة التي عاشوها في دمشق. ونتج معي عشرات المواضيع المهمة والنادرة التي كانت مجهولة أمام الناس، وأنا أعكف حاليا على وضعها في مجلدات كبيرة سأعمل على نشرها في المستقبل القريب».

ولكن ما المعلومات النادرة والمجهولة والشائقة؟

أجاب بشار منافيخي عن هذا السؤال بالقول: «من منطلق اهتمامي بتوثيق الحياة الثقافية والاجتماعية في دمشق، كان بين المواضيع التي تفرغت لها لسنوات توثيق مقاهي دمشق الأدبية والسياسية، ولقد أرخت لكل المقاهي المنتشرة في دمشق من العصر العثماني، ولديَّ صور لها رسمها رحالة أوروبيون. ولقد اكتشفت هنا أن انتشار المقاهي في دمشق بدأ في القرن الـ16 الميلادي، وكان أول مقهى يفتتح بدمشق هو (مقهى العصرونية) أمام قلعة دمشق، ثم وصل عدد هذه المقاهي إلى نحو 290 مقهى في ذروة انتشارها في القرن الـ20 قبل أن يتراجع حاليا ليصل إلى نحو 50 مقهى».

وأردف: «لقد أجريت عملية فرز للمقاهي بكل أنواعها ونشاطاتها وزبائنها، فوصلت - مثلا - إلى معلومات عن أن هناك مقاهي كانت تقدم فيها العروض الفنية والمسرحية، ومنها ما كان يقدم عروضا رياضية كحفلات المصارعة، كما كانت هناك مقاه خاصة بالأدباء.. فـ(مقهى العربي) في ساحة المرجة، على سبيل المثال، و(مقهى الحاج علي) في شارع بغداد كان يجتمع فيهما في عشرينات القرن الماضي نخبة من المثقفين السورين والعرب، بينهم نجيب الريس صاحب جريدة «القبس» والشاعر شفيق جبري والكاتب معروف الأرناؤوط، وهذه معلومات كانت شبه مجهولة؛ لأن الشهرة في هذا المجال كانت لمقهيي (الهافانا) و(البرازيل). وكذلك الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، قبل أن يصبح رئيسا، كان يجلس في مقهى (الهافانا)، ولقد سكن مستأجرا في منطقة بوابة الصالحية، خلف سينما (الأمير)، حين جاء لاجئا سياسيا إلى دمشق، ثم هناك أيضا الشاعر محمود بيرم التونسي الذي اختار دمشق للإقامة فيها إبان فترة نفيه.. وكان بيرم يجلس دائما في أحد مقاهي شارع رامي المتفرع من ساحة المرجة».

وتابع بشار: «أيضا، كذلك عملت على توثيق زيارات الأدباء والمشاهير لسورية بالمعلومات والصور، ومنهم: طه حسين ومحمد تيمور والشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) وجورج صيدح ورجاء النقاش، الذي كان يعمل صحافيا في دمشق أيام الوحدة السورية - المصرية مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وقد كتب النقاش مقالا عن أدباء (مقهى الهافانا) الدمشقي في مجلة (البوليس) القاهرية، وكذلك عملت في مجال المنتديات الأدبية والسياسية التي كانت قائمة في دمشق خلال النصف الأول من القرن الـ20 وحصلت هنا على معطيات نادرة وشبه مجهولة حاليا في الوسط الثقافي والاجتماعي السوري».

وأوضح هنا قائلا: «اشتهرت دمشق في مطلع القرن الـ20 بالكثير من المنتديات والمجالس الأدبية التي كانت موجودة في منازل ومقاهٍ، من أشهرها: منتدى سكينة الأدبي، وكانت المرحومة ثريا الحافظ، زوجة الصحافي منير الريس، تمتلك منتدى أدبيا في منزلها بدمشق، يجتمع فيه الكثير من المثقفين والكتاب العرب. وكان في (مقهى الحاج علي) بشارع بغداد منتدى ماري عجمي، صاحبة مجلة (العروس) التي تعتبر أول مجلة نسائية في سوريا. وعملت أيضا على توثيق دور السينما وتواريخ انتشارها بدمشق، ووصلت إلى معلومات مثيرة في هذا المجال، منها: أن أول دار سينما أُسست في دمشق كانت (جناق قلعة) التي افتتحها عام 1916 الحاكم العسكري العثماني جمال باشا السفاح، وكانت قائمة مكان مبنى البرلمان السوري حاليا في سوق الصالحية. ولقد سميت دار السينما بهذا الاسم نسبة لمعركة (جناق قلعة) التي انتصر فيها العثمانيون على البريطانيين. غير أن هذه الدار لم تستمر أكثر من شهر؛ إذ احترقت بسبب احتراق شريط سينمائي كان يعرض فيها، ثم افتتحت سينما (النصر) في سوق التبن لكنها احترقت بدورها عام 1928 ولديَّ صورة لها. ووصلت إلى معلومة أن انتشار دور السينما بلغ ذروته في الستينات عندما وصل عددها إلى 40 دارا في دمشق، لكنه انخفض حاليا إلى 15 دارا معظمها مغلق». واستطرد: «ووثقت، على صعيد آخر، لبعض ألقاب الكتاب والشعراء السوريين والأسماء المستعارة لهم وكيف تم ذلك، مثل الشاعر أدونيس (علي أحمد سعيد)، الذي أطلق عليه هذا اللقب أنطون سعادة، مؤسس الحزب القومي السوري في لبنان، والشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد)، الذي لقبه بذلك الصحافي فلسطيني الأصل يوسف العيسى صاحب مجلة (ألف باء) الدمشقية، وذلك بعدما دخل إلى مكتبه الشاعر الشهير لابسا عباءة فأطلق عليه هذا اللقب، أما الدكتور عبد السلام العجيلي فقد نشر أعماله تحت عدد من الأسماء المستعارة وصل عددها إلى 22 اسما منها:( بديع الزمان عبد السلام المقنع الهمذاني) و) بديع المكان ) و) أبو مكسيم وغير ذلك .