من مدينة رافيا إلى «قصر الباشا»... معالم تحكي تاريخ غزة العريق

تحف معمارية بينها مساجد مملوكية وعثمانية

قصر الباشا («الشرق الأوسط»)
TT

كان آخر ما خطر في بال جمال النصير أن ترفض البلدية في مدينة غزة منحه ترخيصا لبناء بيته الخاص على قطعة الأرض التي اشتراها على ساحل البحر، غرب مخيم النصيرات للاجئين، وسط قطاع غزة الفلسطيني.

غير أن هذا ما حصل، بعدما أخطرت وزارة السياحة البلدية بأن قطعة الأرض المذكورة تخفي تحتها واحدا من أهم المعالم الأثرية التي تكشف عن الكثير من تاريخ قطاع غزة الغابر. فحسب وزارة السياحة الفلسطينية فإن قطعة الأرض هذه جزء من منطقة تخفي تحتها «دير القديس هيلاسيون»، الذي دشن عام 329م، ومنه انبعثت الديانة المسيحية في فلسطين.

وبخلاف الانطباع السائد، بينت الحقائق الأثرية والحفريات أن رمال قطاع غزة الذي بالكاد تبلغ مساحته 356 كيلومترا مربعا تخفي تحتها تاريخا عريقا يحكي قصة الكثير من الحضارات التي تعاقبت على هذه البقعة من الأرض.

ففي أقصى جنوب قطاع غزة، على مسافة بضعة أمتار من الشريط الحدودي بين مصر وغزة، تعد أطقم من وزارة السياحة وخبراء آثار لاستئناف التنقيب في أقدم معلم أثري في قطاع غزة، وهو مدينة رافيا التي شيدت عام 332 ق.م.، وزارها القائد الأسطوري الإسكندر الأكبر. وتقول نبيلة مليحة، خبيرة الآثار في وزارة السياحة الفلسطينية، لـ«الشرق الأوسط» إن «طواقم الوزارة استخرجت من هذه المدينة الأثرية حتى هذه اللحظة ألف قطعة فضية تعود إلى عهد الإسكندر الأكبر».

وفي شمال قطاع غزة، إلى الشرق من منطقة جباليا، وبمحاذاة الشارع الرئيسي تقبع كنيسة «صاليا»، التي تحمل أرضيتها الفسيفسائية نصوصا يعود أقدمها إلى عام 444م، وفي وسط «البلدة القديمة» من مدينة غزة تقبع كنيسة «بروفيريوس» التي يعود تاريخها إلى عام 407م، وهي تتاخم مسجد ابن مروان، الذي بني إبان العهد المملوكي. ويمكن للمرء عندما يمعن النظر أن يرى هلال المسجد وهو يحتضن صليب الكنيسة.

لكن مما لا شك فيه أن أعظم معلم أثري يتحدى الزمن في غزة هو «قصر الباشا»، الذي بناه السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري عام 1258م. وحسب الخبيرة نبيلة مليحة فإن «الظاهر بيبرس فر في ذلك العام من شجرة الدر التي كانت تحكم مصر، وما لبث أن وجد في غزة ملجأ، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد مقتل شجرة الدر. ومن ثم انطلق من غزة مؤازرا السلطان المملوكي المظفر قطز لينتصرا في معركة عين جالوت بشمال فلسطين، على المغول، الذين استباحوا الدولة العباسية وأسقطوا عائلة الخلافة في بغداد».

توضح مليحة أنه بعدما أصبح الظاهر بيبرس سلطانا على المماليك بعد قطز، اهتم بغزة أيما اهتمام، وتزوج إحدى نسائه فيها، وأقام مجددا في «قصر الباشا». وتبدو بوضوح أختام الظاهر بيبرس على جدران القصر، الذي شيد على النمط المعماري المملوكي الذي كان قائما في ذلك الوقت.

ثم إنه في هذا القصر، أقامت أول وآخر عائلة تحكم قطاع غزة، وهي عائلة الرضوان (آل رضوان) 1556 - 1690، ذلك أن غزة كانت الولاية العثمانية الوحيدة التي حكمتها عائلة محلية من البلد نفسه، ولم يرسل إليها والٍ عثماني من إسطنبول. وما زال عدد من أفراد العائلة الملكية يقيمون في قطاع غزة، وإن تشتت معظمهم في بلدان العالم، شأنهم شأن أبناء شعبهم. كذلك تشير المعلومات التاريخية عن القصر إلى أن الإمبراطور والقائد الفرنسي نابليون بونابرت أقام فيه لمدة ثلاثة أيام في طريق عودته من عكا. وقد أطلق على القصر لبعض الوقت مسمى «قلعة نابليون»، غير أن الاسم الأصلي عاد ليقترن بهذا المعلم المعماري المهم.

من ناحية أخرى، تتوسط مدينة خان يونس «قلعة الأمير يونس دويدار» التي شيدت في عهد السلطان المملوكي برقوق. وثمة عدد كبير من المساجد التي يعود تاريخها للعهدين الفاطمي والمملوكي، مثل المسجد العمري الكبير، أكبر مساجد قطاع غزة الآن والذي تشكل جدرانه وسقفه تحفة تاريخية، ومسجد السيدة رقية في حي الشجاعية، وهو يعد ثاني أكبر مساجد القطاع وقد بني في العهد المملوكي، ومسجد «السيد هاشم» الذي بني في أوائل العصر العثماني، ومسجد «الشيخ خالد».

وبالإضافة إلى المساجد، بين أهم المعالم الأثرية الأخرى «حمام السمرة»، الذي ما زال الآلاف من الغزيين يؤمونه أسبوعين للغوص في بركه الساخنة بقصد العلاج.