حي الميدان: أسس قبل مئات السنين ليصبح بوابة دمشق الجنوبية

منه كان ينطلق موكب الحج الشامي نحو الديار المقدسة

أحد المساجد الأثرية الموجودة في حي الميدان الدمشقي العريق («الشرق الأوسط»)
TT

ينظر الكثير من المهتمين والباحثين والزوار إلى حي الميدان الدمشقي العريق على أنه من أكبر أحياء العاصمة السورية خارج بواباتها السبع وسورها العتيق. وحقا غدا الحي لموقعه الاستراتيجي بوابة دمشق الجنوبية نحو منطقة حوران وجبل العرب، ومن ثم الأردن وشبه الجزيرة العربية، وبالتالي، اكتسب أهمية كبرى منذ قرون، خاصة في مناسبة الحج. إذ كانت تنطلق منه قافلة «الحج الشامي» بمحملها الشهير وتقاليدها التي ظلت قائمة حتى أواخر عشرينات القرن المنصرم، وذلك بعدما تطوف بعدد من أسواق دمشق وحاراتها لكي يودعها الناس مع الوالي العثماني في بوابة الميدان متجهة نحو الأراضي المقدسة.

حي الميدان يوازي حي الصالحية الشهير، شمال غربي دمشق الذي يشابهه في امتلاكه بوابة ما عادت قائمة على أرض الواقع، لكنها ظلت موجودة كتسمية مثلها مثل البوابات الأخرى التي عرفتها دمشق كـ«باب مصلى». ومن هنا، من هذا الباب، يبدأ حي الميدان بحاراته وأسواقه وأزقته لينتهي بالبوابة التي تحمل اسمه. كذلك يبدأ الحي من جهة الجنوب من امتداد شارع باب مصلى حيث «دوار المجتهد» لينتهي بـ«بوابة الميدان» مخترقا الشارع الرئيسي المسمى «كورنيش الميدان»، الذي افتتحته الجهات المحلية قبل نحو نصف قرن.

قسم الحي حسب التسميات الشائعة لمناطقه ما بين «ميدان فوقاني» و«ميدان تحتاني» و«ميدان أبو حبل». ويؤكد الكثير من الباحثين أن تسميته جاءت من كونه يشكل المركز الاقتصادي والتمويني الغذائي الرئيسي للدمشقيين خارج سور «المدينة القديمة»، وأيضا لكثيرين من السوريين الآتين من المحافظات الأخرى. وكانت تزدهر في هذا الحي بشكل خاص تجارة الحبوب والأعلاف، من قمح وذرة وشعير وبقول وغيرها. وما زالت آثار هذه التجارة قائمة من خلال مستودعات واسعة حولت في العصر الحالي إلى أماكن تراثية أثرية عملت مديرية الآثار السورية على تسجيلها ضمن المباني الأثرية التي يحظر هدمها. كذلك اشتهرت أسر «ميدانية» توارثت مهنة تجارة الحبوب وكانت تمتلك هذه المستودعات وعرفها وتعامل معها عبر العقود المزارعون السوريون، وخاصة من المنطقة الجنوبية وسهل حوران. فهؤلاء كانوا وما زال بعضهم يبيع منتجاته من القمح والحبوب والبقول في حي الميدان.

هشام دقماق، أحد مالكي مستودعات الحبوب التراثية في حي الميدان شرح لـ«الشرق الأوسط» تاريخ هذه المستودعات وأهميتها في الحي، قائلا: «ورثت مهنة بيع الحبوب عن عائلتي من خلال مستودعنا الذي يعود تأسيسه لأكثر من 150 سنة. وهناك مستودعات ما زالت قائمة وعليها تواريخ بنائها ومنها ما يعود لعام 1820، في حين غير البعض وجهة استخدام مستودعاتهم وحولوها لمهن أخرى، خاصة مع انتشار أنواع جديدة من التجارة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك لضيق الشارع الذي تنتشر هذه المستودعات على طرفيه. ثم أسهم في التغيير كثافة السير في غضون السنوات الأخيرة مما جعل توقيف الشاحنات الكبيرة التي تحمل أكياس الحبوب لتفريغها في مستودعاتنا أمرا صعبا ومعرقلا للسير. لذا حولت مجموعة من مستودعات الحبوب إلى مطاعم أو مقاه تراثية، ومجموعة أخرى إلى دكاكين لبيع مواد غذائية استهلاكية. أما ما تبقى من المستودعات التي حافظت على صلتها بتجارة الحبوب فلا يتجاوز الـ20 مستودعا بعدما وصل العدد في أواسط القرن العشرين المنصرم إلى نحو 200 مستودع».

وبحسرة تابع دقماق كلامه متحسرا، فقال إنه يتذكر جيدا قبل عشرات السنين، وكان لا يزال صغيرا، كيف كان يأتي مع والده إلى المستودع.. «وكان الشارع يومذاك يضج بالشاحنات ومركبات النقل المحملة بالحبوب، ترافقها حركة بشرية نشطة بوجود المزارعين أصحاب هذه المنتجات الذين كانوا يأتون لتوصيلها وقبض ثمنها، ووجود تجار آخرين آتين من مدن سوريا ليشتروا أيضا من هذه المستودعات الحبوب وينقلون ما يشترون إلى مدنهم».

وأردف «وأتذكر أيضا حركة العتالة (الحمالين) المتميزين بلباسهم التقليدي البسيط وعضلاتهم القوية، وكيف كانت تبقى تلك الأداة المعدنية البسيطة الملتوية على شكل هلال في نهايتها المسماة شعبيا «شنتيانة» على خصرهم يرفعون بها أكياس القمح والشعير ليضعوها على ظهورهم، رغم ثقل وزنها. ومن ثم يدخلونها من الشاحنة إلى داخل المستودع.. قبل قبض أجورهم من أبي وغيره من أصحاب مستودعات الحبوب».

واستطرد دقماق قائلا: «هناك عائلات اشتهرت في حي الميدان بتجارة الحبوب ومنها عائلات زباد والمهايني والحرش وشتيوي والقدة وعراب، وما زال بعض أبناء هذه العائلات وأحفادها يعمل بتجارة الحبوب والأعلاف. وكان البعض يقوم بتصدير واستيراد هذه المنتجات قبل سنوات طويلة في نشاط تجاري متميز ولكن الوضع تغير في السنوات الأخيرة مع انتشار شركات تجارية متخصصة في هذا المجال».

دقماق قال إنه يتمنى أن يحافظ أولاده على مهنة الآباء والأجداد كما حافظ جيله الذي هو الجيل الثالث على المهنة «التي تتميز بالتصاقها بالناس إذ يجري البيع والشراء بالجملة والمفرق». وأضاف «كثرة من العاملين بها، ومن مالكي المستودعات، يملكون أيضا مطاحن خاصة بهم أسسوها قبل نحو نصف قرن في منطقة الكسوة الزراعية بريف دمشق جنوبا، وهي منطقة قريبة من منطقة الميدان، وهذا بعد انتهاء دور مطاحن الحبوب التي كانت قائمة داخل مدينة دمشق بسبب نقص المياه - التي كانت تحتاجها المطاحن - وتحويلها لنشاطات أخرى سياحية وتراثية».

على صعيد آخر، يشتهر حي الميدان، بجانب كونه منطقة تجارية هامة في دمشق، بوجود الكثير من المباني التاريخية والأثرية فيه. ومن أهم المباني التاريخية في الحي مسجد المصلى في «الميدان التحتاني» وقد شيد عام 1209 إبان العهد الأيوبي، ومسجد الكريمي في «الميدان الفوقاني» الذي بني عام 1318 في فترة العهد المملوكي، ومسجد وضريح التينبية اللذان بنيا عام 1396 أيضا في العهد المملوكي. ثم هناك مسجد منجك المشيد عام 1407 والذي يتميز بطرازه المعماري المملوكي الجميل. أما من العهد العثماني فمن أبرز المعالم المعمارية مسجد وضريح الغواص في منطقة تحمل الاسم نفسه وقد بني عام 1878.

ومن المباني التاريخية الأخرى التي يضمها حي الميدان كنيسة القديس حنانيا، التي تعتبر الأقدم في دمشق بعد الكاتدرائية المريمية في الشارع المستقيم، وتقع هذه الكنيسة في زقاق القرشي بالميدان وتتميز ببنائها التراثي الجميل. وهناك أيضا عدد من الحمامات العربية الأثرية التي ما زال القليل منها يعمل كحمام سوق.