«الثمانيني» عبد الله سيالي.. ورث أصول تصنيع القباقيب عن الآباء والأجداد

حرفة تقليدية أجلت انقراضها المسلسلات التلفزيونية التراثية السورية

TT

عرفت العاصمة السورية دمشق منذ مئات السنين «القبقاب»، حذاء شعبي ينتعله الرجال والنساء في البيت وفي حمامات السوق العامة. وقد اشتهر حرفيون وعائلات دمشقية بتصنيع القباقيب يدويا، حتى إن سوقا متكاملة تجاور الجامع الأموي تخصصت بهذه الصناعة وأخذت اسم «القباقبية» لتخصص أصحاب محلاتها بهذه الصناعة الحرفية. إلا أن حال «القباقبية»، مثلها مثل صناعات حرفية سورية عديدة، سارت خلال العقود الأخيرة نحو الانقراض، مع دخول السوق مختلف أنواع الأحذية الشعبية والرخيصة الثمن، وخاصة البلاستيكية منها. وتحولت مهنة «القباقيبي» - أو كادت - إلى ذكرى من الماضي! الحاج عبد الله محمود سيالي «أبو بسام»، الذي تجاوز الثمانين من العمر بسنتين، يصر على مواصلة العمل بصنع «القباقيب» من قلب دكان صغير ورثه عن أسرته، يتوسط سوق الصاغة القديمة بدمشق القديمة، مع زميل آخر له يمارس أيضا هذه الحرفة شبه المنقرضة في دكان صغير بسوق الحرير القديمة. ويرفض الرجلان التخلي عن مهنة الآباء والأجداد مكتفيين بأرباحها البسيطة التي بالكاد تلبي احتياجات أسرتيهما اليومية، ومراهنين على زبائن مهتمين بشراء «القباقيب» من زوار دمشق، ولا سيما من أبناء بلدان الخليج العربي المتأثرين بمشاهد قباقيب المسلسلات التلفزيونية السورية مثل «باب الحارة»، ومن قبله، مسلسلات غوار الطوشة أيام زمان، وكذلك من منتجي مسلسلات البيئة الشامية، والسياح الأجانب الذين يشترون «القبقاب» لأخذه معهم لبلدانهم كعمل دمشقي تراثي.

يروي الحاج «أبو بسام» لـ«الشرق الأوسط» حكايته مع صناعة «القبقاب» وإصراره على الاستمرار بها، قائلا: «في الماضي كانت العادة عندما يبلغ الولد سبع سنوات تبادر أسرته لوضعه في (صنعة) يتعلمها أو يذهب مع والده ليتعلم مهنته، وهذا ما حصل معي. أنا بدأت بصنع القباقيب منذ عام 1938، أي منذ 73 سنة عندما كان عمري تسع سنوات، ولقد عملت مع والدي، وبالذات، في هذا الدكان الذي تشاهدني أعمل فيه اليوم».

ثم استدرك ليقول بحسرة واضحة «ولكن كان الدكان أيام والدي أكبر حجما مما هو اليوم، ولقد اضطررت إلى تصغيره مع انحسار الطلب على القباقيب.. إذ ما عاد لها سوق كما من قبل، وبات زبائنها محدودين.. في حين كان زبائنها في الماضي من علية القوم ومن وجهاء الحارة. وكان هناك المئات يعملون بالصنعة بها ولهم شيخ كار، أما اليوم فلا يعمل بها حاليا إلا أنا وزميل آخر!».

ويتابع «أبو بسام» سرده «منذ انتشار الأحذية البلاستيكية صار كل قباقيبي يتوفى يتخلى أولاده عن مهنة والدهم ويحولون الدكان إلى مهن أخرى. انظر إلى سوق الحرير المجاورة لدكاني.. أتذكر قبل نصف قرن كان هناك عشرون دكانا يمارس أصحابها مهنة القباقيبي، ولكن للأسف لم يبق منهم سوى واحد فقط حاليا!».

ثم يشرح مراحل صنع «القبقاب» قائلا «يتطلب صنع القباقيب جهدا يدويا ووقتا غير قصير. فنحن نجلب خشب أشجار الحور، وهو الخشب المناسب فقط للقبقاب، ونعطيه لحرفي يعمل على نشره و(قولبته) ليأخذ المقاسات المطلوبة للأرجل البشرية. وبعد ذلك أضع في دكاني السير الجلدي على الخشب بشكل متقن ليصبح جاهزا للسير، وهناك مثل شعبي يتداوله الدمشقيون كثيرا هو (لف السير على القبقاب.. طلعوا العدوين أصحاب!). والقباقيب التي ننتجها تكون جاهزة لانتعالها من عمر سنة، وهناك أشكال من القباقيب الصغيرة نصنعها كمنظر وزينة يشتريها السياح أو الناس العاديون لتعليقها في سياراتهم أو بصالونات بيوتهم. والقبقاب ينتعل عادة في البيت والحمام ودورات المياه، وهناك نوعان بشكل رئيسي، هما: الأبيض الطبيعي، والمطلي بالدهان.. الذي يأخذ ألوانا أخرى فيصبح أجمل».

ولدى سؤال الحاج عبد الله سيالي عما إذا كان أولاده يعملون بهذه المهنة المنقرضة، أجاب بلا تردد «أنت تقول إنها منقرضة، فكيف لأولادي أن يعملوا بها، أو أن أورثهم إياها كما ورثتها عن والدي، وهي لا تغني ولا تسمن ولا تسد مصاريف المنزل؟! إن أرباح هذه المهنة ضئيلة جدا، ولولا قباقيب مسلسلات البيئة الشامية مثل (ليالي الصالحية) و(باب الحارة) وقبلها قبقاب غوار الطوشة في (صح النوم) و(حمام الهنا) لما بعنا قباقيبنا». ويتابع «اليوم يأتي السائح الخليجي ويطلب شراء قبقاب سعدية وفوزية (شخصيتان في المسلسلات الشامية) اللتين تنتعلان القباقيب. المسلسلات حققت دعاية وشهرة لقباقيبنا هناك في الخليج، ولكن لدينا أيضا زبائن محليون، إذ ما زال في المدينة رجال ونساء متعودين على انتعال القبقاب منذ طفولتهم وينظرون إليه على أنه حذاء صحي، فهو في الصيف يمتص عرق القدمين ويبردهما وفي الشتاء يهب منتعله الدفء. ولا تستغرب ما أقوله، نعم القباقيب تعطي الدفء والحرارة الطبيعية للقدمين، وتذكر أن الحذاء البلاستيكي مصنوع من مواد كيماوية تحويلية في حين أن القبقاب مصنوع من مواد طبيعية تتلاءم مع جسم الإنسان».

وكان استفسارنا الأخير عن الاختلاف بين القبقاب الرجالي والنسائي، فأجاب «أبو بسام» موضحا «أولا الحجم، فالرجالي كبير والنسائي صغير، ثم هناك لون السير إذ يكون ملونا زهريا أو أخضر أو أزرق للنساء، في حين يكون بنيا أو أسود اللون للرجال، مع العلم أن هناك قباقيب مزخرفة وملونة خاصة بالأطفال».

وقبل أن نغادره سألناه عن طرف ومفارقات حصلت له مع زبائنه، فقال «قبل سنوات جاءني شاب صغير وطلب قبقابا وقاسه في الدكان وجاء مطابقا لقياس رجله فاشتراه، إلا أنه عاد بعد أيام طالبا إرجاعه بحجة أنه صغير على قدمه. فسألته: ألم تكن رجلك معك وقسته أمامي؟! فأجابني بكل جدية: نعم ولكن لقد كبرت رجلي في الأيام الأخيرة. فضحكت وقبلت إرجاعه وقلت له معلقا: ما شاء الله، رجلك تكبر في أسبوع!».