لقلق أربيل الأبيض الجميل يهجر أعشاشه للحمام

بعدما خسر معركته أمام قسوة بني البشر

منذ نوفمبر 1994 لم يعد أي لقلق يعشش فوق مآذن الجوامع في اربيل («الشرق الأوسط»)
TT

أبناء الجيل السابق في كردستان العراق، وإلى حد ما الجيل الحالي أيضا، يتذكرون عش طائر اللقلق، الذي كان يشمخ فوق مئذنة أحد جوامع محلة الخانقاه بمدينة أربيل، عاصمة الإقليم، حتى بات يعرف شعبيا بـ«جامع اللقلق». وهو بالمناسبة، لا يبعد سوى بضعة أمتار عن جامع الخانقاه الكبير. غير أن أجيالا في أربيل كانت لهم ذكرياتهم مع ذلك الطائر الجميل الذي كان يتركهم في الشتاء مهاجرا، ويعود مع تباشير الربيع حاملا البشرى لأهل المدينة بحلول «عيد النوروز»، وهو يرمز إلى يوم جديد.

لطائر اللقلق، في الواقع، حكاية تستحق أن تروى لأنها حكاية مأساوية تعبر عن قسوة البشر مقابل وداعة الطائر وبراءة الحيوان. ولكم أبدع الشاعر الأربيلي نزار فتاح عندما اختصر مأساة لقلق أربيل بأبيات شعرية حفرت على جدارية معلقة بالجامع، تقول:

زمان كنت أعيش مع آلام جراحاتكم وأذرف الدمع لتاريخكم المصبوغ بالدم كنت أحمل إليكم كل سنة بشرى نوروزكم العشق منعني أن أفارقكم ولكنني قتلت بأيديكم وتذكر هذه الأبيات القصيرة، بروعتها «قصيدة اللقالق» الشهيرة للشاعر الداغستاني الأكبر رسول حمزاتوف، الذي ألفها باللغة الروسية، عندما زار مدينة هيروشيما اليابانية، وأخذ بمنظر «ساحة السلام التذكارية» لضحايا القنبلة النووية بالمدينة وتمثال ساداكو ساساكي. ولاحقت ذكرى اللقالق الورقية، التي صنعتها الطفلة اليابانية، ذاكرة الشاعر الأشهر وألهمته ليكتب قصيدة تبدأ بالأسطر: يبدو لي أحيانا أن جنودنا الذين لم يعودوا من ميادين الوغى لم يخلدوا إلى أسرة المجد بل تحولوا إلى لقالق ورقية ومن ناحية أخرى، قبل بضع سنوات، تقدم كل من الزعيمين الكرديين مسعود بارزاني وجلال طالباني في عدة مناسبات باعتذارهما إلى الشعب الكردي بسبب الاقتتال الداخلي المرير الذي خاضه حزباهما في كردستان العراق من منتصف عام 1994 إلى عام 1998، عندما وقعا في واشنطن اتفاقية للسلام ما زال مفعولها ساريا بين الحزبين إلى اليوم، وهي الاتفاقية التي تطورت لاحقا إلى تحالف سياسي جمعهما معا وخاضا به بنجاح العديد من الانتخابات البرلمانية العراقية بعد سقوط النظام السابق. ولكن بعيدا عن السياسة، ثمة من يسأل هل التفت الزعيمان، حين وقعا على تحالفهما السياسي، إلى الدم المهدور من لقلق أربيل؟ وهل فكرا بتقديم الاعتذار للقالق التي كان وجودها علامة فارقة للمدينة، أم أنه لا عزاء للقالق حتى ولو كانت بيضاء، يرمز لونها للسلام والنقاء؟

وحقا، ذهب دم لقلق أربيل المهدور ظلما وعدوانا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1994 حين تلقى رصاصة غدر فوق عشه. ومنذ ذلك اليوم لم يعد أي لقلق يعشش فوق مآذن الجوامع بأربيل.

يشير البعض إلى أن طيور اللقلق البيضاء، بعدما خبرت قسوة الإنسان، هجرت المدينة إلى الأبد، تاركة أعشاشها للحمام يسرح ويمرح مستفيدا من غيابها. ولا بد أن كثيرين من الناظرين إلى تلك الأعشاش يتحسرون على ذلك الزمن الجميل. هذا، ومن نوادر أهل أربيل أنهم ألصقوا لقب «الحاج» على طائر اللقلق، فكانوا يسمونه «حاجي لقلق». ولعل القدماء من أهل المدينة - على أغلب الظن - تصوروا أن هذا الطائر الذي يهاجر في السنة مرة يذهب إلى الديار المقدسة في الشتاء وهي من المناطق الساخنة قياسا إلى أجواء كردستان. وعلى ما يذكر كنعان المفتي، الباحث التراثي الأربيلي والخبير الأثري، «كانت لقالق كردستان تهاجر في الشتاء إلى الجنوب، وخصوصا إلى أفريقيا، ولكن الناس تصوروا أنها تهاجر إلى الديار المقدسة، وإلا فلم أطلقوا عليه هذا اللقب؟». ويتحدث المفتي عن روايات وحكايات ترتقي إلى حد الأساطير نقلا عن أفواه الأربيليين القدماء، فيقول «يروى أن لقلقا أنثى خانت زوجها، لكنها لم تستطع تحمل وزر خيانتها الزوجية والنظر إلى زوجها، فألقت بنفسها في تنور أحد الأفران لتنتحر»، وهذه حكاية مشهورة يتناقلها الأربيليون عن أجدادهم.

أما عن الجامع المعروف بـ«جامع اللقلق»، فيقول كنعان المفتي «هذا الجامع هو في الأصل كان مقاما لمولانا خالد النقشبندي مؤسس الطريقة الصوفية المعروفة، وتولاه بعده أبناؤه وأحفاده من شيوخ الطريقة. وكان في الأساس يعرف بـ(جامع القاضي)، ولكن غلب عليها شعبيا اسم جامع اللقلق كناية عن العش الذي علا مئذنته. وفي حين أن أحدا لا يعرف بالضبط تاريخ تشييد هذا الجامع، فإنني أعتقد أن عمره يمتد إلى مئات السنين، وخاصة أنه قريب من ربض القلعة التي كانت مركزا للمدينة، تحيط بها مناطق عمرانية قليلة قبل قرن. فلم تتجاوز محلات أربيل أصابع اليد الوحدة قبل مائة سنة، ومن هنا نستنتج أن الجامع بإنشائه في ذلك المكان قديم جدا».