«عم سعيد» .. صديق الأحياء الشعبية وكورنيش النيل

بائع «الداندورما» ينافس محلات المثلجات الفخمة ويسعد بركض الأطفال وراء عربته

يطلق عم سعيد اسم والده على عربته ولكنه يخشى رفض ابنه أن يعيش في جلباب أبيه («الشرق الأوسط»)
TT

أصوات بوقه الصغير تعرفها آذان الأطفال والصغار في الأحياء والمناطق الشعبية، بالعاصمة القاهرة، وتتميز بوقع خاص في حارات وأزقة القرى الريفية.. إنه بائع «الداندورما» أو المثلجات (الآيس كريم).. ما إن يهل بصندوقه الخشبي الرطب، أو عربته اليدوية البسيطة المزدانة بكرنفال من الصور والألوان، حتى يتسابق الجميع للحصول على قطعة من الجيلاتي، تكسر حرارة الجو وتشيع في الجسم إحساسا بالبهجة والسعادة.

ففي وسط العاصمة المصرية القاهرة تعلو المباني وتزداد رقيا وتنتشر دور السينما والعروض المسرحية، ووسط هذا الزحام المتمدن واستجابة لمطالب الموسم الصيفي، تنتشر أيضا المحلات التجارية الضخمة التي تخصص بعضها في الحلويات، والآخر في مثلجات الموسم الصيفي. ولكن بعيدا عن المدنية، وداخل المناطق الشعبية التي تحتضن القاهرة من جوانبها كافة، يصعب وجود مثل هذه المحلات الفخمة، وإن وجدت؛ لا يقدر ساكنو هذه المناطق على دفع أثمان ما ستقدمه من مثلجات، بالإضافة إلى أن أصحاب هذه المناطق لهم منطقهم الخاص في هذا الأمر، ومنذ أمد بعيد حتى قبل أن تمتلئ العاصمة بمثل هذه المتاجر الضخمة وتتخذ من وسطها مقرا لها.

ورغم أن بائع «الداندورما» ليس هو الحل السحري لسكان هذه المناطق لينعموا بالبهجة نفسها التي ينعم بها سكان المناطق الراقية في حر الصيف، فإن عزاءهم أنه أيضا جزء من الثقافة الشعبية المصرية، ومن المهن التي تعود المصريون على وجودها في الشارع، وتعود الأطفال الركض وراء عربته المنمقة، التي يحرص على خروج منظرها بصورة تبهر الأطفال؛ مصدر الدخل الأساسي لهذا البائع.

لا تقتصر هذه المهنة القابعة في ذاكرة المصريين على تعود رؤيتها تجوب شوارع وأزقة وحارات المحروسة بمثلجاتها الشعبية البعيدة عن تكلف المحلات الفخمة، وتقف أمام التجمعات وعلى كورنيش النيل وسط العاصمة القاهرة؛ فقد نالت أيضا نصيبها من الفن، فلم ينسها أوبرت «الليلة الكبيرة» الشهير كأثر من آثار ثقافة المصريين.

سعيد عباس (52 عاما)، مواطن مصري بسيط، امتهن هذه المهنة منذ أن كان شابا، وعلى طريقة البسطاء من المصريين، لم ينزعج عم سعيد من المحلات والمتاجر الفخمة التي لا سبيل لمنافستها بعربته المتواضعة، وقال بلهجة مصرية عفوية: «يا بيه الرزق دا بإيد ربنا.. وإحنا بنعمل اللي علينا».

لكن عم سعيد لا يتواكل على الرغم من ظروف الحياة الصعبة، لكنه يحرص على خروج عربته في أبهى صورة، متابعا بنبرة لا تخلو من اعتزاز: «العيال أول ما بتسمع الذميرة (صوت البوق) بتعرف إن دي عربية الجيلاتي وبتجري علينا». ورغم بساطة المهنة، فإن الكد والتعب، وأيضا التطوير، لم تغب عن ذهن عم سعيد، الذي لم يتدرج في سلك التعليم كثيرا، ولكن حبه لما يعمل جعله يتفنن في أساليب يعتبرها الأكاديميون أساليب دعائية، ولكنه يعتبرها مجرد تحسين للصورة وتحلية للبضاعة، وعلى حد قوله: «إحنا ركّبنا في العربية كاسيت وبنشغل قرآن وأغاني معينة، وكلها أساليب» - يعتبرها عم سعيد - «لكسب الرزق».

عم سعيد شخص متمرس، فهو لا يعمل فقط على هذه العربة، ولكن، كما يقول، «الموسم بتاعها بيبقى في الصيف بس، وبعد كدا بنقلّب رزقنا في حتت تانية». ويقول: «أمشي طول النهار بالعربية دي، وأعدي على حتت بعينها؛ زي المدارس وأمام حديقة الحيوان والجامعة. والعشاق على الكورنيش لما يهل الليل بيكون دا مكاني».. عم سعيد رغم بساطة العائد الذي يحصل عليه من وراء بيع المثلجات، فإنه يتفانى في عمله، فيعرف مواعيد خروج مدارس بعينها، ويقف أمامها منتظرا طلابها في خروجهم، فهو على عكس محلات المثلجات الأنيقة بوسط العاصمة التي تنتظر الزبائن ليأتوا إليها، يذهب عم سعيد بنفسه «للزبون»، مما يبقي منافسة عم سعيد لأفخم وأضخم المحلات مشتعلة على الرغم من عدم تكافئها.

يطلق عم سعيد اسم والده على عربته، ولكنه يخشى أن يرفض ابنه أن يعيش في جلباب أبيه، وقال عم سعيد بحزن إن الشباب لا يريدون العمل، وإن ابنه لا يفخر بأن أبيه يعمل في هذه المهنة، وإن ابنه لا يريد أن يعمل بها، وقال بنبرة حزن: «الشباب كلهم عاوزين يبقوا وزراء ومش راضيين بعيشة أهليهم، ومش عارف بعد ما أموت العربية دي هتكون فين».

عم سعيد لخص، وبعفوية كبيرة، مشكلة كبيرة تواجه بعض الأسر المصرية، خاصة الفقيرة منها؛ وهي أن أغلب أبنائها يخجلون من مهن آبائهم، التي قد لا تدر دخلا كبيرا وليس فيها وجاهة اجتماعية، كما أنه يخشى من أن تهدد هذه المهنة بالانقراض، وتصبح مجرد مفردة فوق رف التراث الشعبي، وعلى حد قوله: «الدنيا بتتغير، وما فيش شيء بيبقى على حاله».