ريفيات يبعن «مونة» البقوليات في أسواق دمشق

يفترشن أرصفة الشوارع في رحلة يومية تكسر روتين الحياة الريفية

بسطة نسائية لبيع الفول والبازلاء في سوق دمشقية («الشرق الأوسط»)
TT

«إنها ظاهرة جميلة.. بل لعلها أشبه بلوحة بانورامية من الموزاييك الريفي بكل تراثياته وتقاليده المتميزة».

كلمات مختصرة عبرت من خلالها سهير محمد، الموظفة في إحدى مؤسسات القطاع الخاص السوري، وهي تتجول في سوق دمشقية تبحث عن السعر الأدنى لتشتري حاجيات أسرتها من «مونة» (مؤونة) البقوليات، بينما يتنافس الباعة وأصحاب «البسطات» على كسب الزبائن من خلال أفضلية السعر.

الظاهرة «الموزاييكية» التي قصدتها سهير وأعجبت بها هي منظر النساء الريفيات اللاتي يأتين صباح كل يوم من قرى ريف دمشق البعيدة والقريبة لافتراش أرصفة الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية، حيث يعرضن أمامهن أكياسا معبأة بالبازلاء والفول الأخضر المفروط الجاهز للتخزين في ثلاجات منازل نساء دمشق، ويبقين حتى ساعات العصر المتأخرة قبل أن يقفلن عائدات إلى قراهن بعد بيع ما عرضنه من منتجات موسمية.

إنها رحلة تتكرر كل يوم، لا سيما خلال شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من كل عام.

أم عدنان، وهي امرأة في الأربعينات من عمرها، تأتي كل يوم من قريتها في سفوح جبل الشيخ، قاطعة نحو 80 كلم ذهابا وإيابا كل يوم، لتعمل وتحقق دخلا «يستر الحال» - كما تقول - روت لـ«الشرق الأوسط» حكايتها وحكاية رحلتها اليومية: «مع بدء موسم قطف البقوليات في قريتنا، التي يستهلكها الناس بكثرة وبخاصة الفول الأخضر والبازلاء، ننتظر حتى (يقسى) الفول ويصبح قابلا للفرط والتخزين، وكذلك تنضج معه البازلاء في القرون. ولقد اتفقت مع قريبتي أم يوسف على تنفيذ مشروع تجاري. صحيح أنه بسيط لكنه جيد، ويزيد من دخلنا».

وأردفت: «علمت من نساء قريتي والقرى المجاورة أنه بدلا من أن نبيع منتجات أراضينا من هذه البقوليات مباشرة لتجار سوق الهال لتشتريها نساء المدينة وتتولى فرطها، أو يشتريها تجار سوق الشعلان الذين يكلفون نساء الأحياء الشعبية بفرطها وبيعها بأسعار مرتفعة، وبتشجيع من أزواجنا، يمكننا أن نفرط هذه البقوليات بأنفسنا. وفعلا بتنا نفرطها ونعبئها في أكياس نايلون ونذهب بها إلى دمشق لبيعها على الأرصفة وبسعر مقبول». ثم تابعت: «وعلمنا أيضا أن الكثير من النساء القرويات يقمن بذلك منذ سنوات في مواسم قطاف البقوليات، وعندها قررت أنا وقريبتي خوض هذه التجربة، والحمد لله، أنا هنا في سوق شارع الثورة في دمشق منذ شهر وأبيع كل ما أعرضه يوميا وأعود بغلّة مقبولة».

من جهتها، أرادت أم يوسف أن توضح أكثر من قريبتها، فقالت: «مساء كل يوم ألتقي مع أم عدنان مرة في منزلها والأخرى في منزلي، ونشارك أولادنا في (حفلة) فرط قرون الفول والبازلاء التي تستمر حتى الليل، ومن ثم نعبئ ما فرطناه في أكياس بأوزان متساوية من الكيلوغرام وحتى الـ5 كيلوغرامات، ونتركها حتى الصباح الباكر. وفي الصباح نستقل الحافلة المتجهة إلى دمشق ومن ثم نتجه إلى سوق الثورة، حيث ننتقي مكانا قريبا من الجسر ونبسط فيه بضاعتنا»، واستطردت: «كلما بكّرنا في المجيء إلى السوق استطعنا حجز مكان أنسب لاستقطاب الزبائن».

سألناهما عن نوعية زبائن تجارتهما، فأجابت أم يوسف ضاحكة: «صدقني إنهم، نساء ورجالا، من كل شرائح المجتمع.. من الموظفين والحرفيين، وحتى الأثرياء.. فهؤلاء أيضا في موسم تخزين البازلاء والفول يبحثون عن السعر الأرخص مع النوعية الجيدة، ولذلك نحن نحقق لهم هذين الأمرين». وأضافت: «هناك من الزبائن من يسألوننا مباشرة عن مصدر منتجاتنا، فهؤلاء يعرفون مثلا أن إنتاج الفول والبازلاء في مناطق ريف غرب وجنوب دمشق هو الأفضل من حيث الجودة واللون الزاهي والطراوة وكبر الحبات، حيث يُروى الزرع بشكل جيد من مياه الينابيع التي تكثر في هذه المناطق، في حين أن إنتاج المناطق الأخرى يكون أقل جودة وغير مروي كما يجب».

نساء ريفيات يوضحن أنهن يمارسن عملا تجاريا مثمرا، وحتى من لا تملك أسرهن أراضي زراعية في القرية، فإنهن يلجأن إلى شراء هذه المنتجات من المزارعين ومن ثم يبادرن إلى فرط ما يقمن بشرائه في منازلهن و«التبسيط» به في أسواق دمشق. كذلك فإن بعضهن بهدف زيادة الربحية يسعى إلى توسيع الأعمال من خلال عرض منتجات ريفية زراعية وحيوانية أخرى، مثل الجوز البلدي والجبن والزبد وغيرها. وهن على ثقة أن سكان العاصمة سيقبلون على الشراء منهن من منطلق الثقة بأن كل ما يعرضنه منتج طبيعي ريفي نقي غير ملوث وغير معالج بمواد كيميائية حافظة، كحال ما يعرض في معلبات ويباع في محال البقالة والسوبر ماركات، وحتى في المجمعات التجارية الضخمة التي تتكاثر بسرعة في دمشق.

الرحلة اليومية والموسمية تكسر، في الواقع، روتين الحياة اليومية لنساء الريف، ولكن ماذا عن الأزواج؟

الإجابة هي أنهم موجودون، لكنهم يعملون في مكان آخر وعمل آخر. فالكثير من الأزواج يشاهدهم المتسوقون والعابرون في أسواق وحارات في دمشق ينتقونها بشكل متفرد عن زوجاتهم، وفي مواضع محددة ومعروفة لزبائنهم كساحة التحرير (دوار القصاع) وسوق الهال القديمة (نهاية شارع الملك فيصل) وغيرها.. يفترشون الأرصفة أيضا، ولكن ليس لبيع الفول والبازلاء كحال الزوجات بل لبيع «الأرضي شوكي» (الخرشوف)، حيث يحتاج التقشير إلى قوة زنود الرجال. ويعكف الرجال على تقشير هذا النوع اللذيذ من الخضار ليصلوا إلى اللب، الذي ينقعونه في الماء وملح الليمون داخل براميل بلاستيكية، ويبيعون «الأرضي شوكي» بالقطعة لزبائنهم من الدمشقيين الذين يعشقون هذا النوع، ويخزنونه في ثلاجات منازلهم، تمهيدا لتناولونه في فصلي الخريف والشتاء على مائدة الغداء. وعادة فإن الرجال الذين يرافقون زوجاتهم في الرحلة اليومية، وبخاصة أولئك الذين يأتون من قرى قريبة من دمشق، يتخلفون عنهن في العودة إلى قراهم، ويبقون حتى ساعات المساء المتأخر لبيع أكبر كمية من ممكنة من «الأرضي شوكي».