أصحاب الأفران التقليدية في المغرب يتحسرون على الماضي

المهنة إلى اندثار والزبائن اتجهوا إلى المخابز العصرية.. و«خبز الفرن» أصبح ذكريات

فرن تقليدي في بلدة تيفلت بضواحي الرباط (تصوير: عبد اللطيف الصيباري)
TT

ثمة مهن في المغرب تتجه نحو الاندثار بشكل تدريجي، وخاصة في المدن. وقد أصبح بعض المغاربة مضطرين إلى ترك بعض الحرف التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وزاولوها منذ زمن طويل نتيجة لتراجع الإقبال عليها.

قبل سنوات كانت مختلف المدن المغربية، ولا سيما في الأحياء الشعبية، تشهد حركة دؤوبة خلال فترة ما بعد الظهر، عندما كان الناس يذهبون إلى «فرن الحي» لجلب الخبز. وكان هذا الأمر بمثابة طقس يومي. فمجرد ما تنتهي كل ربة منزل من إعداد عجينة الخبز على شكل دوائر كبيرة، وتضعها بعناية على صينية خاصة وتغطيها بقطعة ثوب، كانت تتجه بها نحو الفرن، الذي كان يكتظ بالزبائن في الفترة التي تسبق وجبة الغداء. وكان من المعروف أن لـ«خبز الفرن» نكهة خاصة لأنه ينضج بنار الحطب.

ولكن في الآونة الأخيرة بدأت الأمور تتبدل وتتغير، وجاء ذلك نتيجة طبيعية لتغير ظروف عيش الناس، ونظرا للتحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، ويأتي في مقدمتها انتشار الفرن المنزلي، إذ صار من النادر أن تجد بيتا يخلو من فرن منزلي، وبالأخص بعد انخفاض أسعار هذه الأفران بحيث صارت في متناول أسر كثيرة، وهذا طبعا بجانب أسباب أخرى.

العربي العياشي، خباز يملك فرنا تقليديا قديما في «السويقة»، وهي سوق شعبية في المدينة العتيقة بالعاصمة المغربية الرباط. منظر هذا الفرن يدل منذ الوهلة الأولى على ضعف الإقبال عليه رغم موقعه «الاستراتيجي»، فرفوفه فارغة إلا من بعض أرغفة الخبز التي تنتظر أصحابها، أما الزبائن فقد تقلصت أعدادهم.

«ما عادت المرأة المغربية اليوم مستعدة لبذل جهد في العجن وأخذ الخبز إلى الفرن. ما يهمها قبل أي شيء جمال يديها وأظافرها».. هكذا يفسر العياشي، ببساطة، أسباب تراجع الإقبال على الفرن الشعبي بنبرة فيها تهكم وحسرة في الوقت نفسه.

ويضيف العياشي أن فرنه كان يعرف إقبالا كبيرا، وكانت مداخيله «معقولة»، بينما لا يتردد عليه الآن سوى قلة معدودة من الزبائن، متابعا «يبدو أن بعض النسوة المسنات، أو ربات البيوت من الجيل الماضي، وحدهن ما زلن وفيات لعادة ترعرعن في ظلها».

ويعتقد العياشي أن انتشار المخابز العصرية وبائعي الخبز الجاهز ساهم بدوره في هذا التراجع الذي تعرفه مهنته، إلى جانب خروج المرأة للعمل، مما يعني أنها باتت تجد صعوبة في إعداد الخبز المنزلي بسبب ضيق الوقت المتيسر لها.

ولأن «مصائب قوم عند قوم فوائد» - كما يقول بيت الشعر الشهير - فمقابل هذا التراجع الكبير للفرن الشعبي استفادت مهن أخرى وانتشرت، إذ صارت المخابز العصرية تكتظ بالناس الحريصين على شراء الخبز الجاهز بمختلف أنواعه، وفي مختلف فترات اليوم، إلى درجة أن فكرة إنشاء مخبز صارت تراود كثيرين. فالإقبال الكثيف يجعل كل من يفكر في هذه الحرفة متيقنا من نجاحه، وبخاصة مع تزايد أعداد الزبائن، من مختلف الشرائح، الذين يقبلون على شراء الخبز الجاهز.

ومن ناحية أخرى، يدفع التراجع الكبير الذي تعرفه هذه المهنة بكثيرين من أصحاب الأفران في المدينة العتيقة بالرباط إما إلى إغلاقها نهائيا وإما إلى تغييرها بتجارة أخرى، وذلك بعدما يئسوا من إمكانية إنهاض مهنتهم التقليدية بحيث تعود إلى مجدها يوما ما. وإذا كان هذا حال الأفران في الأحياء الشعبية، فلا شك أن وضعها في الأحياء الراقية أسوأ بمراحل.

إلى جانب العياشي كان يقف محمد زاكي، صديقه وزبونه، وهو بائع مكسرات يأتي بالفول السوداني واللوز واللب لتحميصها في فرن العياشي. وهذا الأخير لم يعد يجد حلا آخر لتجاوز الأزمة التي تعيشها مهنته سوى تعويض الخبز بالمكسرات، حيث يستقبل الباعة ويتولى تحميص بضاعتهم، ويقول معلقا «هذا أفضل من لا شيء.. فإنني ما لم أفعل ذلك فسأغلق هذا الفرن، حتما، عما قريب».

في المقابل، كريمة السعدي ربة منزل تشتري الخبز من بائع خبز معروف في إحدى الأسواق الشعبية بالرباط، وهي تقول «أفضل أن أعد الخبز بنفسي وحمله إلى الفرن الشعبي، لأن مذاقه ألذ، لكن الإشكال أن الفرن بعيد عن بيتي، كما أنني أملك فرنا منزليا». وتضيف كريمة أنها لا تحب الخبز الجاهز أو «خبز السوق»، كما يسميه المغاربة، لأنه يتسبب لها في بعض الأحيان في مشكلات على صعيد الهضم، غير أنها تقبل على اقتنائه لأن أولادها يفضلونه، كما أنها تشتريه لتتصدق به على المعوزين كل يوم جمعة.

هذا، وإذا كان إقبال بعض النسوة على الفرن الشعبي تراجع تراجعا ملحوظا، فإن بعض النسوة واظبن على الاستفادة من الفرن في طهي الحلويات التقليدية أو الهلاليات وغيرها، لكن هذا النشاط يظل موسميا أو مرتبطا بمناسبات معينة.. ثم إن هذا الأمر يواجه، بدوره، منافسة من طرف المخابز التي صارت تعرض أنواعا كثيرة منها، وخاصة في الأعياد والمناسبات، أضف إلى ذلك وجود «صانعات الحلويات» اللائي يعرفن إقبالا كبيرا، وبالذات، في فترة الأعراس، واللاتي فرضن «حرفتهن» مستفيدات من خروج المرأة إلى العمل وضيق وقتها. وبديهي أن تحضير حلويات الأعراس في المغرب يتطلب وقتا وجهدا كبيرين، وبالتالي، لم يعد مألوفا أن تعد النساء المغربيات بأنفسهن الحلويات الخاصة بالأعراس.