موعد سنوي لعشاق زهرة النسري في تونس

تلعب دورا اقتصاديا واجتماعيا في حياة أهل مدينة زغوان

كعك الورقة مصنوع بماء النسري
TT

إذا أردت أن تفوز برائحة زكية لزهرة النسري، أو النسرين، تلك الزهرة التي أصبحت دليلا موصلا إلى مدينة زغوان التونسية، فعليك أن تستيقظ باكرا لأن تلك الزهرة الخجولة لا تود أن تراها الأعين المتطفلة في وضح النهار.

زهرة النسري الخجولة تطلب من عشاقها أن يستفيقوا باكرا، وأن يسعوا إليها تحت ندى الصباح الباكر، وعلى همسات استيقاظ العصافير خلال الفصل الربيعي الحالم. النسري صاحبة العطر الأخاذ تتوزع بين بساتين مدينة زغوان الواقعة فوق جبل عال يطل من بعيد على الكثير من مناطق تونس، ويصل مداه إلى العاصمة، تطلب من مريديها أن يقبلوا عليها خلال هذه الفترة بالذات ليحملوا الكثير من رائحتها الفواحة عند مجيء كل ربيع، فهي بعده تختفي وتذبل ولا تود الظهور من جديد، كما أن الزهرة نفسها سرعان ما تذبل بمجرد أن تطلع عليها أشعة الشمس الربيعية الناعمة.

في زغوان وخلال هذه الأيام الحركة لا تهدأ بين رائح وقادم على المدينة، فكأنما سكان العاصمة التونسية والمدن القريبة منها قد أدمنوا تلك الزهرة ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يبتعدوا عنها، ولسان حالهم يقول «ما الحب إلا للحبيب الأول». وربما تكون أعين البعض وأحاسيسهم قد تفتحت على زهرة النسري فلم يستطيعوا منها فكاكا.

ويرى بعض الشباب في زغوان أن هدية من عاشق إلى عشيقته متمثلة في زهرة النسري التي يستفيق لها منذ الصباح الباكر، تعد تعبيرا صادقا وراقيا عن مدى الحب الذي يربط بين الطرفين ومدى طهارة مثل تلك العلاقات.

مهرجان النسري انطلق بمختلف فقراته، وهو يقدم للزائرين أفضل العطور وأفخم أنواع الكعك المطهو بماء عطور النسري.

المنطقة كلها تحيا بمجيء مهرجان النسري.. فبالإضافة إلى الكميات الهائلة من عطر النسري التي تباع في وضع يشبه التخفي، فإن الكثير من الناس ألفوا اقتناءه، ولا يودون المنافسة في ذلك. بقية مكونات الحركة الاقتصادية تنتعش، وللزائرين إمكانية اكتشاف النسيج والحلويات التقليدية وخشب الزيتون والألياف النباتية والملابس التقليدية وفنون التزويق بالإضافة إلى الخزف والفخار التقليدي.

كل هذه البضائع التي في معظمها تعتمد على الحرفة اليدوية تعرض في فضاء للصناعات التقليدية وبأسعار هادئة تكشف طبيعة علاقة سكان مدينة زغوان برائحة زهرتهم المفضلة التي يقال إن أصولها الأولى قد جلبتها بعض العائلات من بلاد الأندلس وحافظت على غراستها والتمتع بعطورها لمدة فاقت الآن بالنسبة للبعض منهم حدود القرون الثلاثة، والعائلة لا تمل ولا تكل من متابعة تلك الزهرة والعناية بها.

حول هذه الدورة الجديدة من مهرجان النسري، قال رضا بن حسين، مدير المهرجان، في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط»، إن محاصيل هذه السنة من زهرة النسري كانت طيبة، وهي في حدود ثلاثة أطنان. ودعا إلى تطوير تقطير النسري ليمر من المرحلة التقليدية التي لا تخضع كثيرا للتثمين إلى مرحلة تصنيعية جديدة ترمي إلى إنتاج ما سماه «عصارة النسري» التي يتم استخدامها في صناعة العطور.

ويعترف بن حسين بصعوبة المرور إلى هذه المرحلة، فالمساحات المخصصة للنسري لا تزال صغيرة ومشتتة، وهي لا تتجاوز حدود نصف الهكتار، فيما يشبه الهواية في العناية بزهرة النسري. وقال إن كل كيلوغرام من زهور النسري يوفر في الوقت الحالي لترا واحدا من ماء النسري الذي يكثر عليه الطلب. وقال أيضا إن بعض العائلات تتصل بالمنتجين قبل ثلاثة أشهر من حلول موسم النسري لأخذ نصيبها من بضاعة أصبح لها الكثير من العشاق. أما بالنسبة للمساحات المخصصة لغراسة النسري، فهي لا تتعدى في الوقت الحالي حدود 20 هكتارا، ومن المنتظر بالتعاون مع أحد مراكز البحوث بمنطقة «مقرن» أن تتطور هذه المساحات وأن يخرج الإنتاج من العائلات نحو الفلاحين كممارسة محترفة من دون نسيان جوانب الهواية لدى كثير من العائلات، والتي يجب المحافظة عليها وتطويرها هي الأخرى.

وعلى الرغم من أهمية هذه الزهرة في حياة أهالي مدينة زغوان، فإن الدورة الـ29 من المهرجان لم تعتمد كثيرا على عطور النسري، خاصة في معرض الصناعات التقليدية المقام هناك. وربما أصبحت العائلات التي ذاع صيتها في مدينة النسري غير مضطرة لعرض بضاعتها في معارض تجارية، والحال أن الأيادي تتلقفها قبل دخولها عالم التسويق والترويج. ومع ذلك فقد حضرت بالمعرض خديجة السوسي التي تختص في تقطير هذه الزهرة في بيتها بأسلوب تقليدي، وهو ما جعل الازدحام كبيرا على تلك البضاعة ذائعة الرائحة. السوسي أكدت على «أهمية عطر النسري وقيمته الصحية والغذائية، وكذلك استعمالاته المتنوعة في عالم التجميل، ويكفي أن تقطف زهرة النسري في ساعات الفجر الأولى لتضمن أجود أنواع الزيت المستخرج منها ولتحافظ على رائحتها الزكية».

وحول أنواع زهور النسري، قالت خديجة السوسي إن النسري «العربي» كما يسميه أهالي زغوان يعد من بين أهم أنواع هذه الزهرة. وتلعب هذه الزهرة دورا اقتصاديا واجتماعيا مهما للغاية في ولاية (محافظة) تعاني من صعوبات على مستوى التنمية، فهي قادرة على أن توفر للعائلات المشتغلة في هذا المجال مبالغ مالية مقدرة بنحو ألف دينار تونسي (قرابة 715 دولارا أميركيا) وهو مبلغ على بساطته يسهم في دعم موارد بعض العائلات الفقيرة، وربما اعتبرته بعض العائلات مصدر دخل «مقبول» في ظل عدم توافر موارد ومداخيل أخرى.