«المقهى البيروتي»: محطة أساسية جامعة في يوميات اللبنانيين

طقوسه اختلفت بين الأمس واليوم ليرتدي هوية المجتمع العصري

منطقة وسط بيروت حيث ينتشر عدد كبير من المقاهي
TT

بين أمس مقاهي بيروت وحاضرها صورة تعكس واقع مجتمع لبناني وحياة أبنائه وعلاقتهم مع تلك الأماكن في ليالي أيامهم ونهارها. واقع يختلف إلى حد كبير عما كانت تحتضنه جدران المقاهي منذ عشرات، بل مئات السنين مع ارتدائه هوية المجتمع اللبناني العصري وأجواءه الخاصة. والمتنقل بين أحياء المناطق البيروتية اليوم سيلمس عن قرب هذه الأجواء بما تحتضن من مجالس شبابية أبطالها هم أنفسهم في معظم الأحيان وجدوا في هذا المكان محطة يومية للقائهم يطلقون فيها العنان لأحاديثهم ومناقشاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية.

هذه المقاهي تصبح الجهة المقصودة أكثر من أي مكان آخر في الأزمات السياسية، من دون أن ننسى طبعا وجود مقاه أخرى بأجوائها «الشعبية» وبنراجيلها التي يعبق دخانها في الأجواء وبروادها الذين يجدون فيها مكانا لا يعدو كونه فرصة للترفيه وتمضية الوقت بعيدا عن هموم الحياة ومشكلاتها.

ويعكس شارع الحمراء أو منطقة وسط بيروت بمقاهيهما المنتشرة في كل زاوية من زواياهما، والتي تآنست جدرانها وأرصفتها مع وجوه اعتادت عليهم يوميا ولساعات طويلة وصاروا جزءا لا يتجزأ من هوية المكان، صورة واضحة تختصر هذا الواقع. فالمقاهي هنا ليست فقط لتمضية أوقات الفراغ والترفيه، بل هي مجموعة أهداف قد لا تنفصل إحداها عن الأخرى. فهي إضافة إلى ذلك، باتت الملجأ الأول والأخير لعدد كبير من اللبنانيين بشكل عام، والشباب بشكل خاص، بعد يوم عمل شاق يجتمعون فيها لارتشاف فنجان القهوة عند غياب الشمس، ولا ضير إذا كان على وقع زحمة السيارات وأبواقها. والجديد في الأمر أنه صار للمقهى البيروتي بشكل خاص، واللبناني بشكل عام، أجواء كاملة تتأقلم مع متطلبات روادها الذين يجدون فيها ملاذا آمنا أيضا لاجتماعات العمل أو لإنجاز الأعمال في ظل توفر التسهيلات اللازمة، ولا سيما منها شبكة الإنترنت، بعيدا عن أجواء المكاتب المغلقة. كذلك فهي وجهة مرغوبة لطلاب الجامعات الذين يجدون فيها سكونا وراحة نفسية للقيام بواجباتهم وتنفيذ مشاريعهم خارج جدران المنزل.

ومما لا شك فيه أن وسائل الاتصال، ولا سيما منها الإنترنت التي صارت أحد أهم العوامل الأساسية لاختيار هذا المقهى أو ذاك، كان لها دور أساسي في فقدان، في بعض الأحيان، العنوان الاجتماعي الأول الذي يعرف به المقهى ألا وهو التواصل واللقاءات الموسعة، فهنا لم تعد الجلسة بحاجة إلى أنيس أو صديق، فكل شخص من هؤلاء الرواد قد يجلس لساعات طويلة مع عالمه الافتراضي أمام شاشة الكومبيوتر الخاص به من دون أن يحتاج إلى أن يتواصل مع من حوله.

وعن علاقتها اليومية بالمقهى، تقول ساندي (21 عاما): «أجد في هذه الأمكنة متنفسا للقيام بعملي وواجباتي الجامعية بعيدا عن البيت، لا سيما أن التنسيق بين مواعيد المحاضرات في الجامعة واجتماعات العمل قد يكون صعبا في أحيان كثيرة وهناك صعوبة في الذهاب إلى المنزل ثم العودة مجددا بعد ساعات قليلة، ففي المقهى حيث أحرص على أن يكون متوفرا فيه الإنترنت، أتمكن من اختصار الوقت وتنفيذ ما لدي من عمل». من جهته يقول جهاد (28 عاما): «الجلسة في المقهى مع الأصدقاء ولو لوقت قصير بعد يوم عمل أصبحت محطة لا بد منها قبل الانصراف إلى البيت. رغم أنه وفي أحيان كثيرة قد تختلف المواعيد بيني وبين أصدقائي، لكن تبقى جلسة المقهى موعدا لا بديل عنه».

ولهذه المقاهي التي لا يزال القليل منها صامدا منذ زمن، تاريخ اجتماعي يختصره أستاذ التاريخ اللبناني حسان حلاق بالقول «لكل عهد عاداته الاجتماعية التي تعكسها المقاهي، ولمقاهي بيروت تاريخ طويل وضع أسس لهذه العادات لا يزال بعضها ساري المفعول حتى يومنا هذا». ويقول «في العهد العثماني كانت المقاهي البيروتية ترتكز في الأسواق التجارية على مقربة من الثكنات العسكرية والمساجد، وفي بداية القرن العشرين توسعت دائرتها ليتزايد وجودها في الأحياء وتحولت إلى أماكن للقاء أهل سكان الحارات والمناطق البيروتية يجتمعون ليتباروا في الشعر والموال البغدادي ويلعبوا طاولة النرد والورق ويستمعون إلى قصص الحكواتي، وكان لبعض هذه المقاهي شهرتها في الوسط البيروتي بشكل خاص واللبناني بشكل عام وأهمها، مقهى (المتوكل على الله) لصاحبه سعيد حمد، أحد أشهر شعراء الموال البغدادي آنذاك، وكان يرتادها السياسيون أمثال رياض الصلح وبشارة الخوري وصائب سلام وعبد الله اليافي للتداول في شؤون سياسية، كما كانت ذات هدف اجتماعي إنساني، إذ كانت مركزا لجمعية خيرية توزع المساعدات للعائلات الفقيرة.