مصر: الباعة «السريحة».. الرزق على باب الله

بضائعهم البسيطة على كورنيش نيل القاهرة تصنع البسمة على الوجوه

«السريحة» يحاولون إنعاش دخلهم بعربات الذرة المشوية («الشرق الأوسط»)
TT

«السريحة».. ليست مجرد كلمة في القاموس تجسد انطلاقة الإبل والماشية على غير هوادة في الأرض، ولا هي صيغة مبالغة تدل على الإمعان في ذلك. بل إن واقع الحال يقول إنها مهنة بالفعل، يلتحق بها من عانده المجتمع والظروف، وفشل في أن يجد عملا أو مهنة محددة له. فما إن يبدأ فصل الصيف في مصر إلا ويكثر وجود الباعة «السريحة» الجائلين على كباري القاهرة الممتدة فوق نهر النيل، أو على أرصفة الكورنيش، أو في نواصي شوارع وأزقة المناطق الشعبية، مفتتحين عملهم مع اتجاه الشمس للغروب ويستمرون في الترويج لبضائعهم حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.

والواقع أنه لا تكتمل متعة القادم للتنزه والاستمتاع بهواء نهر النيل إلا بشراء ما يبيعه أو يعرضه هؤلاء «السريحة»، حيث يمكنه شراء كيس من الترمس، أو «كوز» ذرة ساخنا، وربما احتساء كوب من «حمص الشام»، أو الجلوس معهم وشرب كوب شاي «في الخمسينة». كذلك يمكن شراء الورد وعقود الفل لقاء قروش قليلة، لترتسم حالة من السعادة على وجوه جميع المترددين عليهم.

كثيرون من «السريحة» يرددون دائما أنهم «على باب الله»، فغالبيتهم يعاني من ظروف حياتية صعبة. ولذا فليس أمامهم إلا العمل ولو بمهن بسيطة لكي يجدوا قوت يومهم. ورغم ذلك فهم يواجهون متاعب كثيرة ومرهقة، أبرزها تعرضهم لتعقب شرطة المرافق ومطاردات رجال «البلدية» بهدف إزالة إشغالات الطريق، وهو ما يعتبره «السريحة» كابوسا، لا يملكون أمام حدوثه بين حين وآخر سوى الركض السريع مع ما يبيعونه من بضاعة كي لا يقعوا في قبضتهم.

ورغم اختفاء هذا التعقب بعد قيام ثورة «25 يناير»، فإن كثيرين من «السريحة» يشكون من تراجع ملحوظ في رواج بضاعتهم في الوقت الحالي، وذلك بسبب إحجام نسبة عالية من المصريين عن التنزه خوفا من تعديات «البلطجية» في ظل الغياب الأمني في بعض المناطق، وكذلك بسبب تراجع أعداد السياح والزائرين لمصر ممن يجتذبهم نيل القاهرة وشراء ما يبيعونه.

على الكورنيش ينتشر بعض «السريحة» الذين يتخصصون في شواء الذرة، وهي الوجبة المحببة في ساعات الليل للعديدين من مرتادي الكورنيش خاصة الأطفال. ويقول أحد الباعة، بينما كان منهمكا بالشواء: «هذه مهنتي التي لا أعرف غيرها، وهي المهنة التي ورثتها عن والدي. أقوم بالتنقل على كورنيش النيل من منطقة إلى أخرى، إلا أنني أفضل الوقوف بصفة خاصة أمام الفنادق. فبجانب ما أبيعه إلى المصريين أبيع الذرة أيضا للسياح الذين يعجبهم مذاقها». وبنبرة لا تخلو من أسى، يتابع بائع الذرة «في السنوات الماضية كانت بعض الفنادق تتعاقد معي لإمدادها بكميات من الذرة يوميا، لكنهم يعتبرون ذلك نوعا من الجذب السياحي. لكن الوضع اختلف هذا العام نتيجة قلة عدد السياح المتوافدين إلى مصر بعد الثورة»، لافتا إلى أن هذا الوضع أفقده مصدر رزق جيدا.

أما أعلى كوبري الساحل على النيل، الذي يتوسط بعض المناطق الشعبية، مما يجعل زواره دائما من البسطاء الباحثين عن الاستمتاع بهواء النيل بعيدا عن ضغوط الحياة، فيكثر «السريحة» الذين يتخصصون في بيع سلع رخيصة لمرتادي الكوبري. ويقول «العم سعيد»، وهو رجل خمسيني يدفع أمامه عربة خشبية صغيرة، يضع عليها الترمس في كومة هرمية «أنا في هذه المهنة منذ أكثر من 15 سنة، أبيع الترمس على الكوبري، فهو مصدر رزقي الوحيد. واخترت الترمس تحديدا لأنه متواضع الثمن، يستطيع الفقراء مثل الأغنياء شراءه، كما يحبه الأطفال أيضا».

وعلى كوبري عباس، المتاخم لمحافظة الجيزة، وأيضا على مناطق كثيرة من الكورنيش، ينتشر العديد من بائعي مشروب «حمص الشام»، الذي يعرف في مصر باسم «الحلبسه»، ويجتذب بمذاقه الساخن والحريف كثيرين من الشباب المصري والأسر المصرية.

علاء حسين، شاب يتخصص في بيع «حمص الشام» يقول: «أنا لم أنل إلا قسطا قليلا من التعليم، وبدأت في هذه المهنة منذ عدة سنوات وكنت في البداية «مساعد سريح»، إلى أن أكرمني الله وأصبح عندي هذه العربة. هناك زبائن كثيرون يأتون خصيصا ويبحثون عني لشرب أكواب الحمص لدي، إلى جانب العديد من السياح العرب». ولا يخفي علاء، بدوره، تأثر مبيعاته سلبيا هذا الصيف بسبب تخوف أسر كثيرة من الخروج ليلا، خاصة في ظل تراجع الأمن في البلاد. ويشير علاء إلى أن السريحة الذين ينتشرون بطول كوبري عباس يتولون تأمينه من تعديات بعض «البلطجية» أو محترفي السرقة، «لأن من مصلحة السريحة أن يأتي زبائن أكثر على الكوبري».

ولا تقتصر مهنة «السريحة» على الرجال فقط، بل تمتد إلى أوساط النساء، وغالبا ما تتخصص الفتيات والنساء العاملات في هذه المهنة ببيع باقات الورد وعقود الفل إلى زوار الكباري، وقد يفترشن مكانا صغيرا لبيع أكواب من الشاي.

اللافت، أنه نظرا للظروف التي تمر بها مصر والركود في السياحة بعد الثورة، فضل كثيرون من «السريحة» الانتقال من كورنيش النيل ومن الميادين المختلفة إلى «ميدان التحرير»، الذي شهد تظاهرات المصريين حتى سقوط النظام السابق، والذي يشهد حتى اليوم ما يطلق عليه مسمى «المظاهرات المليونية» في أيام الجمعة. وهدف هؤلاء من ذلك البحث عن «لقمة العيش» حتى وإن اختلف جمهورهم من المتنزهين إلى المتظاهرين، أو اختلفت بضائعهم لتتماشى مع أحداث الثورة مثل بيع العلم المصري أو «تي شيرتات» الثورة. بل إن بعضهم أحيانا «ينسى بضاعته وينخرط في المظاهرة».. كما يقول جابر حسن، وهو شاب في الثلاثين، يبيع الأعلام بالميدان، ويضيف «لا أعرف كيف حدث هذا، لكن أغنية عبد الحليم حافظ الوطنية، خطفتني، وهتافات الجماهير أنستني الأعلام والجراب الذي أبيع فيه، وظللت أهتف، وكأنني في حضرة مولد السيد البدوي. حتى نبهني أحد زملائي من الباعة، فعدت إلى أعلامي».