قصر بيت الدين.. أشهر المقرات الصيفية للرؤساء اللبنانيين

يعتبر من أجمل وأروع نماذج الفن العربي في القرن التاسع عشر

يشكّل معمار بيت الدين مزيجا رائعا ومتناسقا من بناء الحجر اللبناني من الخارج والفن الزخرفي الدمشقي من الداخل («الشرق الأوسط»)
TT

تختلف أذواق وأهواء رؤساء الجمهورية في لبنان حول المقر الرسمي الذي يستضيفهم أيام الصيف والذي يختارونه وفقا لرغباتهم وليس طبقا لتقاليد متبعة في الجمهورية اللبنانية. ورغم أن عددا لا يستهان به اختار خلال توليه الحكم مسقط رأسه أو دارته الخاصة لتكون المقر الصيفي الرسمي لهم كعربون وفاء لأهالي منطقتهم، يساهم في انتعاش الموقع الذي يختارونه، فإن قصر بيت الدين يبقى هو الأشهر بينها، إذ اعتبر المقر الصيفي الرسمي الأكثر دلالة على رمزية الموقع وارتباطه ارتباطا وثيقا بتاريخ لبنان العريق.

يقع قصر بيت الدين في بلدة بيت الدين في منطقة الشوف على بعد 45 كلم عن مدينة بيروت، وترتفع هذه البلدة نحو 850 مترا فوق سطح البحر، ويعتبر هذا القصر من أجمل وأروع نماذج الفن العربي في القرن التاسع عشر. ويشكّل مزيجا رائعا ومتناسقا من بناء الحجر اللبناني من الخارج والفن الزخرفي الدمشقي من الداخل، وشهد قدوم العمال الدمشقيين لصنع الفسيفساء وصقل الرخام.

عاد هذا القصر إلى الواجهة من جديد بعدما استرجعه الرئيس اللبناني إميل لحود من الحزب الاشتراكي اللبناني عام 2000 بعدما كان هذا الأخير قد وضع يده عليه لعشرين عاما أثناء الأحداث اللبنانية، وذلك عندما قرر أن يتخذ منه مركزا لإقامته الصيفية. وكان قبله قد سكنه عدد من الرؤساء اللبنانيين وآخرهم الراحل إلياس سركيس لأنه كان بمثابة المقر الصيفي الرسمي لرئاسة الجمهورية اللبنانية.

«الحرملك» هو اسم الجناح الذي عادة ما يسكن فيه رؤساء الجمهورية ويتألّف من أكثر من 20 غرفة، ويعتبر أحد أكثر أجنحة القصر زخرفة، وقد زينت بوابته الرئيسية وجدرانه بالمنقوشات والفسيفساء المرمرية المتعددة الألوان، ناهيك بالآيات الحكمية المرقومة عليها.

وتعتبر حمامات هذا الجناح من أجمل ما خلّفته العمارة الهندسية في القرن التاسع عشر، وهي تطل على حديقة أقيم عند طرفها ضريح مقدد يحتوي على قبر الست شمس زوجة الأمير بشير الثاني الشهابي الذي حكم لبنان زهاء نصف قرن، وقد استغرق بناؤه نحو ثلاثين سنة منذ عام 1789 إلى عام 1822. وبعد نفيه إلى إسطنبول عام 1840 وإلغاء نظام الإمارة تحوّل القصر إلى مقر للولاة العثمانيين ومن ثم للمتصرفين الذين تعاقبوا على حكم جبل لبنان منذ عام 1860 حتى عام 1915. كذلك شغلته السلطات الفرنسية غداة الحرب العالمية الأولى ويقال إن الشاعر الفرنسي لامارتين سكنه لمدة قصيرة في تلك الآونة.

يتألف القصر من 162 غرفة وتبلغ مساحته 30 ألف متر مربع ويحتوي على ثلاثة أقسام: الدار الخارجية والدار الوسطى ودار الحرملك.

أول من سكن القصر وابتكر تقليد اتخاذه مقرّا صيفيا لرؤساء الجمهورية اللبنانية هو الرئيس اللبناني الراحل بشارة الخوري، وذلك عام 1943، وفي عهده وبالتحديد عام 1947 نقلت رفاة باني القصر الأمير بشير الثاني من إسطنبول إلى جانب رفاة زوجته الست شمس في المدفن القائم في حرم القصر. وفي عام 1952 انتقل إليه بدوره الرئيس الراحل كميل شمعون، وقد اختاره يومها مقرّا صيفيا له لموقعه القريب من بلدته الأم دير القمر التي تبعد نحو 5 كلم عن بيت الدين، فكان يتنقل مرارا ما بين البلدتين لتمضية عطلة الصيف.

أما الرئيس الراحل شارل الحلو وبسبب إجراء بعض التعديلات على القصر في السنة الأولى لتوليه الحكم فقد اضطر إلى السكن الصيفي في منطقة عالية وبالتحديد في دارة نقولا بسترس التي تقع في أطراف المدينة عقب اتفاق على إيجار رسمي يومها فاق 100 ليرة لبنانية. وابتداء من عام 1965 سكن شارل الحلو القصر أثناء فصل الصيف وطالب في تلك الفترة بتجهيز طابق خاص للضيوف وتخصيص صالة كبرى لاجتماعات مجلس الوزراء، وزاره هناك ملوك ورؤساء عرب أبدوا إعجابهم بهندسة القصر وزخرفاته.

في عام 1976 وعلى إثر تولّيه الحكم أعلن الرئيس الراحل إلياس سركيس عن نيته في السكن في القصر صيفا، ويتردد أن أهم المحادثات السرية جرت في تلك الفترة في أروقة القصر والتي تتعلق بوضع لبنان السياسي المتأزم.

وكانت قد جرت العادة أن يتّخذ كل رئيس جمهورية في لبنان مقرّا صيفيا له بعيدا عن المدينة، وذلك حسب رغبته واختياره وسعيا وراء الهدوء والسكينة، وكذلك لتعزيز موسم الصيف في المنطقة التي يسكنها من جهة أخرى.

الرئيس الراحل فؤاد شهاب اختار بلدة عجلتون مسقط رأسه لتكون مقرّه الصيفي أثناء تولّيه الحكم، وكان قد امتنع عن زيارة قصر بيت الدين إثر مقتل النائب نعيم مغبغب في بلدة عين المعاصر الشوفية عندما كان هذا الأخير متوجها إلى القصر لتلبية دعوة الرئيس شهاب مع عدد من وجهاء المنطقة للاشتراك في المؤتمر اللبناني السنوي للمغتربين الذي كان يقام في القصر.

أما الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية فقد جرت العادة أن يمضي فصل الصيف متنقلا ما بين بلدة الكفور الواقعة في فتوح كسروان وبلدة اهدن في شمال لبنان.

الرئيس أمين الجميل من ناحيته اختار أيضا بلدة بكفيا مسقط رأسه مقرّا رسميا له يمضي فيها فترة الصيف، وذلك طيلة فترة حكمه، وقد شهدت المنطقة ككل الحقبة الذهبية من عمرها، وهو ما قام به أيضا الرئيس الراحل إلياس الهراوي الذي اختار - أسوة بالرئيس الجميل - دارته في بلدته زحلة المقر الصيفي الخاص به.

أما اليوم فقد زاول الرئيس ميشال سليمان نفس التقليد الذي سبقه إليه الرؤساء الخمسة اللبنانيون بشارة الخوري وكميل شمعون وشارل الحلو وإلياس سركيس وإميل لحود ليكون سادس رئيس جمهورية يسكن قصر بيت الدين ويتخذ منه المقر الرسمي له في الصيف.

حاليا تقام مهرجانات بيت الدين في قسمين من القصر: الميدان، ويتسع لنحو 500 شخص، والسلملك ويستوعب 1200 شخص. بدأت هذه المهرجانات عام 1985 باقتراح من الوزير السابق وليد جنبلاط، وقد ساهمت زوجته نورا في جعلها أحد أهم المهرجانات التي تقام حاليا في لبنان، فاستضافت نجوما معروفين في الفن والغناء العالمي والعربي أمثال التون جون وبلاسيدو دومينغو وخوسيه كاريراس وفرق رقص وفولكلور وباليه أجنبية، وأطلّت فيها فيروز وكاظم الساهر وتوفيق فرّوخ وغيرهم.

وحاليا تتوجه الأنظار إلى القصر الذي سيشهد في الشهر المقبل انتقال الرئيس اللبناني ميشال سليمان إليه ليمضي فيه نحو عشرين يوما يبتعد خلالها عن حرّ الصيف الذي يسود العاصمة بيروت في هذه الفترة، وعادة ما يرافقه زوجته وأولاده والحرس الجمهوري المرافق له. ويواظب الرئيس سليمان على هذا التقليد منذ تسلّمه الحكم، أي منذ سنتين وهذه الثالثة. وعادة ما يفاجئ جمهور المهرجان الذي يقام سنويا في قصر بيت الدين بحضوره، حيث يجلس في المقاعد الأمامية ويشاهد العرض كغيره من اللبنانيين الموجودين هناك.

يذكر أن القصر يعتبر رمزا من رموز السياحة المعروفة في لبنان ويقصده السياح من خارج لبنان، وكذلك اللبنانيون المقيمون في البلد، وعادة ما يشهد زحمة شديدة خلال المهرجانات التي تقام فيه.