«حلويات الحلاب».. من البيع على عربة في عاصمة شمال لبنان إلى العالمية

125 سنة وما يقارب الـ1000 صنف من الأطايب

«قصر الحلو» المركز الرئيسي لمحلات عبد الرحمن الحلاب في طرابلس («الشرق الأوسط»)
TT

يقترن اسم مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، بالحلويات العربية، وتحديدا تلك التي تصنعها عائلة الحلاب، وباتت لها شهرة تجاوزت لبنان لتصل إلى الدول العربية وأوروبا والأميركتين. لذلك تبقى زيارتك لطرابلس ناقصة إن لم تتذوق حلويات الحلاب، وعودتك منها باهتة وغير لائقة ما لم تحمل لأصدقائك شيئا من تلك الأطايب التي باتت خصوصية المدينة وصنو اسمها.

«قصر الحلو» هو أحد محلات الحلاب الأكثر شهرة في المدينة وخارجها، ففيه يعمل نحو 600 موظف فيما يشبه خلية نحل لا تتوقف، وينتجون ما يقارب الـ1000 صنف من الحلويات بين شرقية وغربية، ويقدمون الخدمات لزبائن المحل اليوميين كما يلبون طلبات المنازل، ويوزعون على الفروع الخمسة الموجودة على الأراضي اللبنانية، إضافة إلى تلبية طلبات زبائنهم حول العالم عبر إرسال طرود الحلويات بالبريد السريع. ومع هذا، يشعر آل الحلاب أنهم عاجزون حتى الآن عن سد حاجات كل زبائنهم لأسباب لوجيستية وفنية، تجري معالجتها بشكل علمي مدروس.

«قصر الحلو» أو ما كان يسمى سابقا بـ«حلويات عبد الرحمن الحلاب»، عبارة عن مبنى قديم رضخ للتحديث، ويتكون من عدة طبقات، فيه مصنع خلفي يحوي أحدث الآلات التي تنتج على مدار النهار، وصالات متعددة لاستقبال الزبائن، بالإضافة إلى مطعم وحديقة مكشوفة، بحيث أصبح أحد أهم المحطات السياحية لزوار «عاصمة الشمال».

هذا هو المركز الأساسي تضاف إليه خمسة فروع في لبنان، وثلاثة في المملكة العربية السعودية، وفرع يفتتح قريبا في قطر، بينما توقف العمل في فرع اللاذقية بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا.

ليست الصدفة هي التي نقلت عائلة الحلاب إلى العالمية، بل العمل الطموح لثلاثة أجيال متعاقبة حاول كل منها، أن يضيف إلى المهنة لمساته وروح عصره على طريقته.

عادل سنجقدار، مدير المبيعات في «قصر الحلو» يروي حكاية آل الحلاب بشغف ومتعة، قائلا «من يوم لم يكن لطرابلس أي محل للحلويات في القرن التاسع عشر، إلى يومنا هذا وما يتم التخطيط له للأجيال القادمة». ومن طريف ما يقوله إن «طرابلس عرفت تاريخيا بشهرتها بنوعين اثنين من المحصولات الزراعية، هما قصب السكر والحمضيات، وهذا ما كان يدفع بالأهالي لصناعة أصناف كثيرة من الحلويات في منازلهم لاستهلاك فائض السكر لديهم. وفي غياب أي محل للحلويات، كانت سيدات البيوت يطبخن الحلو ويتباهين به، ويتنافسن على صنع أحسنه. وبرزت عائلة الحلاب حينذاك كأمهر صناع للحلويات في المدينة، وعندها فكر أحد رجال العائلة، وهو محمود الحلاب، أن يبيع على عربة صغيرة أصنافا مختلفة من (المعمول) و(النمورة) وبقي يسوق حلوياته بطريقته هذه حتى وفاته. ومن بعده فكر ابنه رفعت - أو الحاج رفعت - عام 1881 في فتح محل لبيع الحلويات في طرابلس، وتحديدا في منطقة التل، أطلق عليه اسم (رفعت الحلاب وأولاده)، ونما عمله بمساعدة أبنائه الثلاثة عمر وعبد الرحمن ومحمود».

وبوفاة رفعت احتفظ عمر بدكان أبيه وارثا اسمه، في حين أسس محمود شركة «ميلكا» لإنتاج الحليب، وفتح عبد الرحمن محله الخاص لصنع الحلويات، الذي يحمل حاليا اسم «قصر الحلو». وقد استطاع أبناء عبد الرحمن، سامر وأسامة وعامر وعدنان، أن ينهضوا بالمهنة ويقطعوا أشواطا في مجال تطويرها، لا بل وعولمة الحلويات العربية، ليصل صيتها إلى أوروبا والأميركتين.

يشرح لنا عادل سنجقدار أن «أولاد عبد الرحمن ما كانوا متحمسين في البدء للعمل مع والدهم، وذهب كل منهم يشق طريقه في اختصاص مختلف، لكنه كان حريصا على تعليمهم المهنة. وعندما توفي عبد الرحمن وجد الأولاد أنفسهم مضطرين لإدارة هذا الإرث. وهكذا ترك أسامة مهنة الصيدلة التي كان تخصص بها في بلجيكا، وترك سامر هندسة الميكانيكا التي درسها في أميركا، ومثلهما فعل عامر الذي كان يدرس إدارة الأعمال، وانضم إليهم صغيرهم عدنان الذي كان لا يزال في الثانوية».

وجاهد الأربعة لا للاستمرار فحسب وإنما للتطوير أيضا. ومن طريف هذه القصة أن العقبة الأهم التي واجهتهم هي عدم وجود آلات صناعية للحلويات العربية، مما دفع سامر للاستفادة من اختصاصه في الهندسة للعمل مع مهندسين آخرين من جنسيات مختلفة لتطويع آلات موجودة أو تعديلها لتصبح صالحة للحلويات الشرقية. فآلة صنع البوتيفور (وهو نوع شبيه بالبسكويت) مثلا، تم إجراء تعديلات عليها لتصير قادرة على قولبة المعمول وحشوه بطريقة آلية، وبأحجام صغيرة. حتى الأفران الجاهزة ليست صالحة لخبز الحلويات العربية التي تحتاج درجة حرارة معينة، ومستوى من الرطوبة، مما استدعى تعديلها وتطويعها.

«الجودة والنكهة لا يمكن ضمانهما بالاعتماد على الآلات وحدها، فهناك المواد الأولية التي يتم الحرص على أن تكون من الدرجة الأولى»، هكذا يقول سنجقدار. ويشرح أن «حلويات عبد الرحمن الحلاب هي المؤسسة الوحيدة في الشرق الأوسط لصناعة الحلويات الشرقية التي لها مختبر خاص بها لفحص المواد، قبل التصنيع وخلاله وبعده أيضا، للتأكد باستمرار من أنها خالية من الميكروبات، يشرف على هذه الاختبارات الدائمة متخصصون في مجال التغذية. لذلك فإن كل فروع الحلاب في لبنان لا تنتج الحلويات، وإنما تبيع المنتجات التي توزع عليها من المركز الأساسي، حرصا على الاحتفاظ بالجودة المطلوبة. لهذا فإن حصول الحلاب على أيزو 9001 وأيزو 22000 لم يأت بضربة حظ».

الظريف في قصة انتشار صيت حلويات الحلاب، هو أن المغتربين اللبنانيين أسهموا فيها إلى حد كبير. فالأهل يرسلون لأولادهم الحلويات في غربتهم، وهؤلاء بدورهم يقدمونها لأصدقائهم ومعارفهم. وهذا الأمر جعل حتى غير العرب يعرفون الحلاب ويطلبون حلوياته عبر الإنترنت. غير أن هذا التطور السريع، والطلب المتزايد، يصطدمان اليوم بعقبة العنصر البشري.

يشرح لنا سنجقدار قائلا إن «محلات عالمية مثل (ماكدونالدز) أو (بيتزا هات)، تبيع عددا معدودا من الأصناف، في حين ينتج الحلاب المئات من الأنواع، وهو ما يحتاج إلى متخصصين عند فتح الفروع. هذا الأمر تجري دراسته مع وزارة التربية في لبنان لاستحداث فرع دراسي تخصصي في المدارس المهنية تحت مسمى (الحلويات الشرقية)، مدة الدراسة فيه 3 سنوات، بحيث يكون بمقدور الخريجين الإسهام فيما بعد في تغذية فروع جديدة، يجري فتحها في بلدان مختلفة».

الشركة التي صار لها أقسام إدارية ومسؤولون ذوو اختصاصات، حرصت دائما على مسايرة العصر وتجديد منتجاتها، وجعل مذاقاتها مناسبة لمختلف الأذواق، فطورت مع رغبة الناس في التقليل من السعرات الحرارية، ما أصبح يعرف بـ«الحلويات دايت». ولعشاق خلط الغربي بالشرقي هناك «الكرواسان بالكنافة»، أو «الكنافة بالشوكولا».

إنها ابتكارات واختراعات، وتجارب، لن يكون آخرها مطعما يقدم وجبة غداء بالطريقة المنزلية، لربات البيوت اللاتي ما عدن يجدن الوقت لتحضير الأكلات التقليدية التي تتطلب وقتا طويلا.

وعليه، لم يعد السؤال المطروح هو ما الذي يقدمه الحلاب؟ بل ما الذي لا يقدمه الحلاب لمن يحب اللقمة الشهية حلوة ومالحة.