ساحة «اتكل على الله».. فخ مروري تنخلع له قلوب السائقين في أربيل

في تحد عجيب لمنطق الهندسة

ساحة «اتكل على الله» في أربيل («الشرق الأوسط»)
TT

لو قدر لك أن تزور أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، فاحذر من الوقوع في «كمين» بإحدى ساحاتها الرئيسية، والتي لا بد أنك ستمر بها بما أنها تقع في قلب المركز التجاري الرئيسي للمدينة، وتربط الكثير من شوارعها الأبرز.

قبل أن تذهب الهواجس بعيدا، «الكمين» المقصود لا علاقة له بالإرهاب، فأربيل، مثلها مثل باقي كردستان العراق، تنعم اليوم - بحمد الله - بالأمن والاستقرار. إنه «كمين هندسي»، إذا صح التعبير، يُسأل عنه مهندسو مديرية المرور في المحافظة عند التقاطع المعروف شعبيا بـ«ساحة اتكل على الله». وحسب بعضهم، تستطيع مديرية مرور كردستان العراق بالتصميم الهندسي لهذه الساحة دخول أي قائمة لغرائب العالم وعجائبه، لأنه تصميم فريد من نوعه يندر العثور على مثيل له في مشارق الأرض ومغاربها! فالعادة أن تخطط الأجهزة الهندسية المتخصصة العاملة في دوائر المرور ساحات المدن الكبرى والتقاطعات المكتظة بحركة المرور لكي تسهل انسيابية حركة سير المركبات وانتظامها، من خلال ربط عدة شوارع أحدها بالآخر. والمألوف أن تصمم تلك الساحات بحيث يجري ربط أربعة شوارع من أربعة اتجاهات متعاكسة.

لكن على عكس كل الخطط الهندسية المعمول بها في العالم، فإن المهندسون صمموا «ساحة اتكل على الله» في مركز مدينة أربيل بتسعة مسارات واتجاهات متداخلة، ويتولى شرطي المرور الوحيد الموجود فيها تنظيم السير في ثلاثة مسارات فقط، في حين تركت المسارات الستة المتبقية «سائبة» للسيارات ومختلف أنواع المركبات الأخرى أن تسير فيها على هواها. ولذا ترى أن سائقي السيارات المارة في هذا التقاطع الغريب يضعون أيديهم على قلوبهم عند اضطرارهم للعبور تحسبا لمفاجآت قد تكون في أغلب الأحيان غير سارة. فكم من حوادث الاصطدام وقعت هنا بسبب تعاكس تلك المسارات المفتوحة أمام الكل، أما السائق الحذق - والمحظوظ، طبعا - فهو ذلك الذي ينجو بسيارته من هذا التقاطع، من دون أن يصيبه ضرر من مركبات الآخرين.

في إحدى المرات كان أحدهم متجها إلى بناية المحافظة، وهي ليست بعيدة عن تلك الساحة، التي كان لا بد من اختراقها للوصول إليها برفقة صديق. وما إن اقتربت السيارة من الساحة حتى صاح الصديق «يا الله يا ستار!»، وعندما سأله السائق عن سبب هذا الذعر، أجابه بكل بساطة «ألم تسمع بأن هذه الساحة تسمى (اتكل على الله)، وها أنا أدعو الله متوكلا عليه لنعبر منها بسلام!».

في الواقع معظم سائقي السيارات في أربيل يتحدثون عن التصميم الغريب للساحة، وعن تسببها في الكثير من الحوادث المرورية. غير أن العميد قادر عمر، من مديرية مرور أربيل، قلل من أهمية الأمر، قائلا «الحوادث المرورية تحدث في جميع أنحاء المدينة، وهنا عدد السيارات كبير جدا، والشوارع لا تستوعب ذلك العدد على الرغم من التحسينات الكبيرة التي طرأت على شوارع أربيل، سواء على صعيد توسيعها أو شق شوارع جديدة. وفي الأساس فإن معظم الحوادث المرورية يسببها السائقون أنفسهم عندما لا يتقيدون بإرشادات المرور».

في المقابل، يلقي نصر الدين عمر، وهو سائق سيارة أجرى (تاكسي) في المدينة، بتبعات الحوادث في الساحة على عاتق مديرية المرور. ويقول «هذه السيارة اشتريتها من دمي، وهي مورد رزقي الوحيد، لذلك أحرص عليها كحرصي على عيني. لكني كلما اضطررت للمرور بهذه الساحة أضع يدي على قلبي خوفا من أي ضرر قد أتعرض له بسبب غرابة تصميم هذه الساحة. فأي اصطدام أو خدش للسيارة سيوقف عملي لعدة أيام أمضيها في الذهاب إلى المنطقة الصناعية وانتظار رحمة (الفيترجي) - مصلح السيارات - والصباغ وما إلى ذلك من أعمال التصليح والإعداد، وأنا أعتمد على محصولي اليومي لتدبير معيشة أطفالي، وهذا يعني أن أي توقف للسيارة سيضر بي وبعائلتي».

هانا، وهو أيضا سائق تاكسي، يوافق زميله الرأي، ويقول «نعم، أتجنب كثيرا المرور بهذه الساحة، اللهم إلا في الساعات التي تقل فيها الحركة، مثل أوقات ما بين الظهر والعصر حين يذهب الناس إلى بيوتهم للقيلولة والراحة فتقل الحركة في الشوارع. أما في ساعات الذروة، قبيل المغرب أو في الصباح، فإنني لا أنقل أي راكب إذا ما عرفت أن طريقه يمر عبر هذه الساحة».

أما جبار كريم، الذي كان يعمل سائقا للتاكسي الداخلي في أربيل، فقد تعرض مرة إلى خسارة كبيرة جراء تعرضه لحادث اصطدام في هذه الساحة، فتحول بعدها إلى الخط الخارجي بين أربيل وكركوك. وهو يقول عن تجربته «الخط الذي حصلت عليه بين أربيل وكركوك أريَح لي. فأنا أخرج في الصباح الباكر وأحمل أربعة ركاب، وما هي إلا ساعة حتى أصل كركوك، التي أعود منها محملا بركاب آخرين. إنني أسافر في الأسبوع مرتين أو ثلاثا على الأقل، والمردود مناسب ولا أقول جيدا، لكنه قياسا بما تكبدته من خسارة كبيرة أثناء تعرضي للاصطدام في تلك الساحة فهو مردود أفضل بكثير». ويتابع جبار «عندما وقع لي ذلك الاصطدام تكبدت مبلغ 2500 دولار ثمن التصليحات، ناهيك عن انخفاض سعر السيارة في المعارض بحدود 2500 دولار أيضا، فكل سيارة تتعرض إلى الاصطدام ينزل سعرها في السوق. وهذا يعني أنني خسرت خمسة آلاف دولار لمجرد مروري هناك. وبناء عليه، تبت عن المرور في تلك الساحة ما دمت أقود سيارة».

على صعيد آخر، علق هلو محمد، وهو سائق سيارة حكومية في إحدى الوزارات «تصميم الساحة ساقط هندسيا، ويفترض بمديرية المرور أن تعالج هذه المشكلة». وأردف «تصور أنه في لحظة واحدة تنطلق عشرات السيارات من عدة مسارات كلها من اتجاهات متعاكسة، وما لم تكن يقظا جدا لا بد أن تتعرض إلى حادثة. في هذا المكان لا يعود الأمر بيدك، فالسائقون كلهم مستعجلون، ولا بد أن تحدث سباقات عند هذه الساحة. لذلك من السهل أن تقع حوادث ما دام التصميم الأساسي للساحة لا يتيح لشرطي المرور السيطرة الكاملة على جميع مساراتها واتجاهاتها».

ولدى سؤال العميد قادر عمر عن وجود خطأ في تصميم الساحة، أجاب في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» بأن «الدائرة الهندسية بمديرية المرور هي المسؤولة عن تصميم الساحة وإجراء الإصلاحات المطلوبة فيها. ونحن في طور البحث عن معالجة لهذه المشكلة بعد ورود شكاوى كثيرة بهذا الشأن، ولدينا إجراءات مؤقتة لحل جزء من المشكلة إلى حين إيجاد طريقة فعالة لمعالجتها جذريا».

وحول المعالجات أوضح «نحن نسعى حاليا إلى زيادة عدد أفراد شرطة المرور في الساحة لكي نسيطر على المسارات كلها، وفي مرحلة لاحقة سنعمل على نصب إشارات ضوئية فيها لضبط انسياب المركبات».