«مقهى المتقاعدين» في أربيل.. لأحاديث وذكريات الأيام الخوالي

بعيدا عن صخب الحياة وإيقاعها السريع

داخل مقهى المتقاعدين في أربيل («الشرق الأوسط)
TT

داخل حديقة المدينة في أربيل، بكردستان العراق، المعروفة شعبيا بـ«باغي شار»، والتي تحولت إلى مقهى للمتقاعدين، لا بد لمن يمرّ أن يستمع لمرتاديها من كبار السن وهم يتجاذبون أطراف الحديث عن أيام شبابهم. ومعهم سيسترجع صدى السنين الخوالي لذلك الزمن الجميل والأصيل. زمن كان الناس يعيشون فيه حياة قانعة وبسيطة متآلفين متوادّين، على عكس ما تشهده هذه الأيام من تفكك العلاقات والتصارع واللهاث وراء متع الحياة المادية وأطماعها.

ولقد كانت مبادرة رائعة من نوزاد هادي، محافظ المدينة، عندما قرّر توفير محطة استراحة لهؤلاء المتقاعدين الذي أفنوا زهرة شبابهم في خدمة المجتمع. وكان له الفضل في تحويل إحدى أقدم حدائق المدينة - أنشئت عام 1937 - إلى مركز لتجمعهم، ومنح الإجازة لمقهى شعبي داخل الحديقة ليخدمهم ويوفّر لهم بعض الألعاب البريئة مثل «النرد» (طاولة الزهر) و«الدومينو» وغيرهما لكي يمضوا فيها ساعات قليلة من يومهم.

ليس على كل من يدخل هذه الحديقة أن يمارس هذه الألعاب، لكن معظم روادها يتجمعون في حلقات دائرية يسترجعون فيها ذكرياتهم وأيام شبابهم، ولكل منهم قصة وحكاية، منها قصة زواج العم خليل الذي يرويها لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «هناك قصيدة شعرية لشاعر كردي يصور مشية فتاة متبخترة في أحد الشوارع المقفرة في أحد الصباحات الباكرة بمدينة السليمانية. وحين رأى الشاعر طرفا من عين تلك الفتاة من تحت الخمار (البوشية) ألهمته كتابة تلك القصيدة الرائعة التي حوّلها المطرب الكردي الراحل قادر كابان إلى أغنية ما زال كثيرون يرددونها بإعجاب ومتعة رغم مرور أكثر من أربعين سنة على إذاعتها».

ويتابع العم خليل «الحالة نفسها عشتها عندما كنت مدرّسا حديث التخرج، فهذا المكان كان في الأصل حديقة المدينة، قبل أن تتحوّل خلال عقد الستينات من القرن الماضي إلى نادٍ للمعلمين بمواجهة نادي الموظفين. وذات يوم في ساعة قريبة من المغرب لمحت فتاة تمرّ هناك وتتغطى بعباءة سوداء تخفي وجهها وراء «البوشية»، فظهر جزء من شعرها الجميل فجذبني شعرها ومشيتها ولاحقتها إلى أن عرفت منزلها في محلة العرب بالمدينة. ومن ثم بت أراقب ذلك البيت وأمرّ أمامه كل يوم إلى حين رأيت وجهها من وراء الباب مصادفة، فأسرت قلبي. وعندها تقدمت لخطبتها وتزوجنا، وأمضيت معها أحلى أيام عمري إلى أن سبقتني بالوفاة قبل سنتين بجلطة قلبية وهي في الـ67 من عمرها، فتركتني وحيدا، ولذلك أتردد يوميا على هذا المكان أسترجع فيه ذكريات تلك الأيام الجميلة».

ويقول عبد الباقي إبراهيم (70 سنة)، وهو أيضا مدرّس متقاعد: «كانت أربيل صغيرة جدا في الستينات، فباستثناء نادي الموظفين الذي كان يقابل هذه الحديقة قبل أن تهدمه البلدية في منتصف السبعينات، لم يكن لنا نحن المعلمين أي ناد اجتماعي أو مركز ثقافي نتجمع فيه. وبناء عليه، تحوّلت هذه الحديقة إلى نادٍ للمعلمين بعدما تزايد عدد الموظفين في المدينة وما عاد ناديهم يستوعبنا، وبعدها صرنا نتجمع هنا لتمضية بعض أوقات الراحة. ونحن نجتمع اليوم.. نفس الزملاء السابقين في ما عدا من رحلوا عنا، رحمهم الله. لقد بقينا ثلاثة أو أربعة من زملاء ذلك الزمن نأتي إلى هنا لنستعيد ذكريات الماضي».

ويتحسر العم محمد (68 سنة) على الزمن الماضي، ولسان حاله يردد مع الشاعر العربي «ألا ليت الشباب يعود يوما/ لأخبره بما فعل المشيب»، ويقول «إننا نشعر بالغربة في مجتمعنا اليوم. التطوّر الذي حدث داخل المجتمع، وتوافر العديد من وسائل الترفيه عند شباب الجيل الحالي وعزوفهم عن العلاقات الاجتماعية والإنسانية عوامل تجعلنا نشعر بالغربة حتى ونحن في مدينتنا». ويتابع: «بصريح العبارة نحن اليوم لا ننتمي إلى هذا المجتمع. كانت العلاقات في زمننا بالقمة. كنا نتزاور بيننا نحن الأهل والأقرباء ويسأل الواحد عن الآخر يوميا، وكانت علاقاتنا بزملائنا سواء في العمل أو الوظيفة أكثر من أخوية. أما اليوم فحتى ابني لا أراه إلا في الشهر مرة واحدة، إذ تراه يلهث وراء المادة.. اليوم يسافر إلى بغداد وغدا إلى إيران، وبعده إلى ماليزيا بقصد التجارة. بالفعل، نادرا ما أراه.. وحتى لو زارني في بيتي فإنه سرعان ما يودعني بعدما يأتيه اتصال على الموبايل».

وسألت سليم محمد، وهو موظف متقاعد، عن برنامجه اليومي بعدما تقاعد بنهاية خدمة أربعين سنة، فقال «لقد اعتدت يوميا أن أخرج بحدود الساعة التاسعة صباحا للتجول في أسواق المدينة. أنا بيتي في محلة «باداوة».. وهي بعيدة جدا عن مركز المدينة، لكنني أمشي متعمدا من هناك إلى المركز بقصد الرياضة البدنية، وخاصة بعدما داهمني مرض الكولسترول ونصحني الأطباء بالمشي يوميا بمعدل خمسة كيلومترات. لذا تراني أخرج من بيتي في الصباح إلى مركز المدينة حيث أتجول في الأسواق وأزور بعض أصدقائي القدماء من أصحاب المحلات وأرتشف الشاي عندهم. ثم بحدود الظهر أعود أيضا مشيا على الأقدام إلى بيتي حيث أبقى في البيت لحدود العصر، وبعد أداء الصلاة أخرج إلى هذا المقهى وأجلس مع أصدقائي إلى حين حلول ساعة المغرب، ثم أعود إلى البيت. هذا هو برنامجي اليومي المعتاد، فلا طاقة لي بعمل إضافي بعد تقاعدي على الرغم من أن الراتب ضئيل جدا، ولكن ابني الذي يقيم معي في البيت هو الذي يتولى المصاريف، وما أتسلمه من الراتب التقاعدي لا يكفي إلا لمصاريفي الشخصية».

هناك ثلاثة أفراد من الشرطة المحلية يحرسون الحديقة ويتولون مهمة مراقبة دخول الأشخاص إليها. وهم يتحققون من هوية الأشخاص الغرباء، فإذا لم يكن أحدهم يحمل هوية تقاعدية لا يسمح له بالدخول، وهذا بقصد توفير الراحة لهؤلاء المسنّين وتحاشي تعكير أجواء الهدوء داخل الحديقة. إلا أن العم خورشيد، الذي كان من عناصر «البيشمركة» القدامى وتقاعد برتبة عسكرية، غدا وجهه مألوفا لحراس الحديقة لتردّده اليومي. وهو يقول «حسنا يفعلون بمنعهم دخول الشباب إلى الحديقة. نحن نريد أجواءً هادئة نمضي فيها بعض ساعات الراحة، ونشكر السيد المحافظ نوزاد هادي الذي وفّر لنا هذا المكان منذ عام 2008، فقبله لم يكن لنا أي مكان نذهب إليه للتمتع بهدوء ببعض الأوقات. إن (الباركات) الموجودة في المدينة تعجّ بالعوائل والأطفال وصخبهم، لذا فإن هذا المكان هو الأنسب لمن هم في عمرنا لكي نصرف فيه بعض الساعات بهدوء».

وبسؤاله عن انشغال بعض الرواد بألعاب كـ«الدومينو» و«طاولة الزهر» وما يسفر عنها من صراخ ومشاحنات في بعض المرات، قال العم خورشيد: «لاحظ أن هناك مكانا محددا للعب، وهو بعيد عن مكان جلوسنا هنا للحديث، ومع ذلك فنادرا ما تحصل المشاحنات بين اللاعبين فمعظمهم أناس محترمون وليسوا شبانا كي يتعاركوا على اللعب. الجميع هنا يحرص على الهدوء».

وحقا، وسط الهدوء ينساب من مكبّر الصوت في المقهى صوت كوكب الشرق أم كلثوم، وتذاع أيضا في بعض المرات أغاني كردية قديمة يستطيبها الرواد. وهنا يقول العم نوري (61 سنة): «لي ذكريات مع أم كلثوم التي لا يطربني غيرها، ولي مع كل أغنية لها ذكريات وذكريات.. في شبابي كنت أمتلك راديو ترانزيستور صغيرا أديره على إذاعة بغداد التي كانت تذيع أغانيها في الساعة الثانية إلى الثانية والنصف من بعد ظهر كل يوم. وكنت يومذاك أجلس في باحة الدار أملأ سمعي بتلك الأغاني الرائعة، لذلك كلما سمعت أغنية لها هنا أسترجع تلك الأيام الجميلة من شبابي».