جنايني ميدان التحرير: أنا والغلابة على باب الثورة

«العم كرم» يرى نفسه صاحب المكان الأشهر في العالم ومستشار المتظاهرين

«العم كرم» جنايني صينية ميدان التحرير بالقاهرة وهو يرش النباتات: أنا فرحان بالثورة وشبابها جددوا فينا الأمل
TT

ما إن تشرق الشمس حتى ينهض «العم كرم» من نومه، ويتناول إفطاره المفضل طبقا من الفول، وقطعة جبن «قَرِيش» فلاحي، وبعض أعواد من «الجرجير الأخضر»، ويحتسي كوبا من الشاي، وبابتسامة رضا يلقي التحية على زوجته وأسرته ثم يمتطي دراجته المتهالكة قاطعا بها عدة كيلومترات في شوارع العاصمة المصرية القاهرة، حتى يصل إلى مقر عمله في الهواء الطلق، في «ميدان التحرير»، مسرح أحداث ثورة «25 يناير» التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

هذه هي حال الرجل الخمسيني منذ 26 عاما، قضاها في الحديقة الدائرية التي تتوسط الميدان الأشهر في العالم حاليا، التي يطلق عليها المصريون «الصينية»، ولا تقتصر مهمته فيها على ري النباتات بالمياه وتقليم الأشجار وتسوية الحشائش، بل يحرص على أن يتم كل ذلك وفق نسق جمالي يتسم به الميدان.

ورغم أن مهمة «العم كرم» الجليلة توقفت قليلا خلال 18 يوما عمر الثورة المصرية بعد أن نصب المتظاهرون خيامهم في «الصينية»؛ فإنه لم ينقطع عن الميدان، حيث ارتضى لنفسه مهام أخرى شارك فيها المتظاهرين، هتافاتهم ومطالبهم.

وفي حين يعمل المزارع الحكومي الآن تحت حرارة شمس الصيف ممسكا بمقصه يهذب به أشجار الميدان، أخذ حشد من أصحاب المطالب الفئوية في التجمع حول «الصينية»، ترتفع أصواتهم مطالبة بإصلاح أحوالهم الوظيفية، وهو ما جعله ينتقدهم بقوله: «نفسي الناس تقعد على الكراسي.. البلد حالها واقف.. ونفسي الحكومة الجديدة تلتفت ليهم ولينا.. سأفرح بالثورة أكتر لما ألاقي حقي راجع ليه».

في اليوم التالي لـ«جمعة الغضب»، التي تغيب فيها عن موقعه بسبب عطلته الأسبوعية، اندهش «العم كرم» من منظر الميدان الذي تحول إلى كرنفال من البشر: «لقيت الدنيا اتقلبت، وجدت الصينية قد تحولت لمكان مبيت لكثير من الشباب، بعد أن وضعوا فيها الخيام، واندهشت من المشهد الغريب.. أسلاك شائكة ودبابات ومدرعات للجيش، وناس كثيرة تتدفق على التحرير».

دخل العم كرم إلى «الصينية»، يريد أن يمارس عمله اليومي: «وجدت الشباب يسألونني: أنت معانا ولا مش معانا؟»، وقبل أن يهم بالإجابة تابعوا: «إحنا هنا علشان نجيب حقك وحق كل الغلابة». ويتابع بلهجة أولاد البلد: «الشباب في الميدان كانوا في عمر أولادي، وقد قالوا لي أنت مثل والدنا، لا ترش مياها علينا، استجبت لهم، ورغم حزني أنهم في مكان عملي، فإنني كنت مبسوطا منهم، شعرت أنهم صادقون ومحترمون، وممكن يجيبوا لنا حقنا المهضوم عند الحكومة».

يتقاضى عامل الحديقة أجرا زهيدا شهريا لا يتعدى 500 جنيه (80 دولارا)، رغم أنه أوشك على بلوغ سن المعاش، والراتب لا يكفيه هو وزوجته وأبناؤه الخمسة.

«كنت فرحان جدا من الثورة، لأني حسيت إن حالي وحال أولادي هيتغير»، يستطرد الرجل، وهو يشير بيديه إلى مظاهرة جديدة التحقت برصيف «الصينية» تطالب بحقوق وظيفية أخرى، متابعا: «أنا رجعت لعملي من غير أي تغيير، لكن الحركات الاحتجاجية والمطالب الفئوية والمليونيات مستمرة».

لافتات المحتجين وهتافاتهم من حول «العم كرم» التي لم تختلف كثيرا عن أيام الثورة، هو ما جعله يتذكر: «لم أكن أفهم كل الشعارات والهتافات، زي (تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية)، لكن اللي كنت أفهمه أن الشباب بيحبوا البلد، وعايزين المصريين كلهم زي بعض، وأنهم مش حيقبلوا تاني ظلم حسني مبارك ولا رجالته».

يكمل: «دلوقتي الحال تغير، متعرفش الناس دي بتحب البلد ولا لأ، كل واحد بيدور على مصلحته، حتى المتظاهرين نفسهم اتغيروا». ثم يصمت قليلا وهو يتابع المظاهرات الفئوية، ثم يضيف بنبرة تنم عن الحزن: «أنا وزمايلي ممكن نعمل زيهم، لكن إحنا كمان بنحب البلد، وعلشان كده بنراعي ضميرنا في شغلنا».

يلتقط الرجل إحدى الأوراق العالقة على إحدى شجيرات الحديقة يقول: «أعجبني أن الشباب والبنات وقت الثورة كانوا ينظفون الميدان يوميا رغم أنهم أولاد ناس قوي، كان معهم أكياس سوداء ومكانس، ويأخذون رأيي فين نجمع القمامة والمخلفات، وهو ما جعلني أشعر أني صاحب الميدان». يتابع: «في آخر يوم في الميدان جمع الشباب كل القمامة، كنت مبسوطا جدا وهم يستشيرونني في عملية النظافة».

ويأخذ نفسا عميقا ثم يكمل كلامه: «زي ما تغير الميدان وبقى علامة في حياة المصريين، نفسي مصر كلها تتغير للأحسن، لحد دلوقتي مفيش أي جديد، أنا والغلابة اللي زيي مش حاسين بأي تغيير».

ورغم تلك الكلمات، فإن «العم كرم» لم يخف شعوره بالفخر، عندما يسمع كل العالم يتحدث عن ميدان التحرير: «حاسس بفرحة.. وكل يوم شغل فيه بالنسبة ليّا عيد.. واللي بيفرحني أكتر لما السياح يزوروا الميدان ويبقوا عايزين يتصوروا وسط الصينية.. بحس وقتها إني شغال في مكان مهم».

وفي حين يبدأ في الإمساك بخرطوم المياه لرش الأشجار، يقول: «مطلوب مني إني أزين الميدان وقت زيارة الرؤساء والوزراء الأجانب له، وعلشان كده بشوف شغلي كويس لأن الميدان لازم يبقى مرشوش ونظيف».

يرفض الرجل إطلاق أي اسم آخر على الميدان، أو تغيير وضعه، ويقول: «أنا هموت وأمشي وسيأتي غيري.. والتحرير حيفضل زي ما هو.. أحسن مكان في العالم».