محمد بوسالم.. مغربي يسير عكس عقارب الساعة.. والمهنة ساعاتي

66 سنة لم تتعب منه المهنة ولم يتعب منها

الحاج محمد بوسالم أمام محله («الشرق الأوسط»)
TT

تستحق قصة محمد بوسالم عبر حياته المهنية أن تروى. فثمة مفارقات تتسم بها سيرة هذا الرجل الذي يعمل ساعاتيا منذ عام 1945، أي منذ كان فتيا.

يتحدث بوسالم عن مهنة الساعاتي في المغرب، وعن التحديات والصعوبات التي تواجهها هذه الحرفة، بعد ظهور أنواع جديدة زهيدة الثمن من الساعات الإلكترونية، أو كما تعرف اليوم بساعات «الكوارتز»، التي هددت مكانة الساعات الميكانيكية، مما جعل محبي هذه الأخيرة يبحثون عنها في أرفف الساعاتيين ولدى باعة التحف.

يعرف محمد بوسالم باسمه مقرونا بلفظة «الحاج»، وهو عادة ما يقف أمام باب محله بشارع الحسن الثاني في العاصمة المغربية الرباط، حيث استقر منذ 1967، وذلك بعدما عمل في عدد من المدن مثل الدار البيضاء ومكناس.

ووسط زحمة انشغال الحاج محمد مع ركام الساعات، أخذنا من وقته القليل، لكنه قال لنا الكثير. فقبل أن يساير الحاج بوسالم عقارب الساعة والزمن، تكلم عن بداياته، مشيرا إلى أن والدته حملته معها إلى الدار البيضاء من دوار «آيت سمكان» في ضواحي مدينة ورزازات بجنوب شرقي المغرب، عندما كان لا يزال رضيعا عمره ستة أشهر.

كان ذلك عام 1928، وكان أمل أسرته يومذاك أن يقرأ ويتعلم في الكتاب القرآني، بيد أنه كان يخرج، وهو طفل، من الجامع باحثا عن فرصة عمل. وقد جرب العمل مع إسباني يصنع الأحذية الرياضية، ثم دخل تجربة قصيرة بائعا للمثلجات، قبل أن تستهويه هواية إصلاح الساعات. في البداية اقتحم هذا المجال من باب الهواية والفضول لا غير، لكنه لم يخرج منه بعد.

في ذلك الوقت من ثلاثينات القرن العشرين، حتى حدود نهاية السبعينات، كان المغاربة يستعملون نوعا واحدا من الساعات، سواء الساعات اليدوية أو المنبهة أو ساعات الجيب، هو النوع الميكانيكي الحركة الذي يجري شحنه يوميا. وهذا النوع من الساعات يصدر عموما دقات متتالية مسموعة. وإذا لم يجر شحن هذا النوع فإنه يتوقف تلقائيا عن العمل. ولا شك أن دقات هذه الساعات الميكانيكية هي التي ألهمت «أمير الشعراء» أحمد شوقي، إذ قال:

«دَقاتُ قلْبِ المرْء قائلة له.. إن الحياة دقائق وثوان»..

ويتذكر الحاج محمد بوسالم حتى اليوم ماركات أو علامات هذا النوع الميكانيكي من الساعات السويسرية وغيرها. وعندما بلغ من العمر 17 سنة أصبح ساعاتيا محترفا مستقلا بعمله، وفتح محلا خاصا به في الدار البيضاء. ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم، يلاحظ الحاج محمد غياب عدد من مصلحي الساعات في المغرب، لا سيما من الفرنسيين الذين غادروا عائدين إلى بلادهم بعد استقلال البلاد أو اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى إسرائيل في سبعينات القرن الماضي، طبعا بجانب آخرين غادروا الحياة. ويرى الحاج محمد أن الفرنسيين واليهود كانوا آنذاك بمثابة معلمي أصول هذه المهنة للشباب المغربي، الذين لم يكن متاحا أمامهم تعلم ميكانيكا الساعات وأصول إصلاحها في المؤسسات التعليمية أو المهنية، ثم إن المغرب لا يصنع الساعات بل ما زال يستورد كل حاجياته منها من الخارج.

ولاحقا، أدى التطور التكنولوجي - تحديدا تقنية «الكوارتز» - في سبعينات وثمانينات القرن الماضي في عالم صناعة الساعات، إلى إضعاف مهنة الساعاتيين في المغرب، ودفع كثيرين منهم إلى التخلي عن المهنة لممارسة مهن بديلة. يتعلق الأمر بظهور ساعات «الكوارتز» المستوردة من اليابان بكميات كبيرة وبأسعار رخيصة، مقارنة بغلاء الساعات الميكانيكية التي كانت تطرح أيضا بعض مشكلات الصيانة والإصلاح. وقد تضاعفت تجارة هذا النوع من الساعات الجديدة، وباتت تعرض حتى من طرف البائعين المتجولين في الشوارع بأثمان زهيدة تصل في بعض الأحيان إلى أقل من دولار واحد. هذه الساعات أثرت سلبا على مهنة الساعاتيين، كما يقول الحاج محمد بوسالم.

وأضف إلى ما تقدم ذكره، ظهرت الساعات في كل مكان وحين. وما عاد المرء بحاجة إلى وضع ساعة في معصم يده إلا من باب حب استعمال الساعة أو للزينة ما دام الهاتف الجوال يحتوي - إلى جانب خيارات كثيرة - على ساعة بكل مؤشرات الوقت وتفاصيله، وليس في المغرب فحسب، بل في جميع مناطق العالم. ثم إن التوقيت يظهر اليوم على أجهزة استقبال الفضائيات، وعلى شاشة التلفاز، وعبر سماعة الهاتف الثابت سواء في العمل أو بالمنزل.. ويمكن التعرف على إشارة الساعة في المغرب فقط بطلب الرقم 171 من أي هاتف.

في الشوارع أيضا تنصب البنوك لوحات أمام أبوابها عليها ساعات إلكترونية يشاهدها الناس من مسافة بعيدة، وبجانب التوقيت يمكن قراءة تاريخ اليوم والشهر وحتى درجات الحرارة. بل حتى خارج المدينة، قد لا يحتاج الأمر للساعة، إذ يعرف القرويون مرور الوقت من خلال الشمس، وصياح الديكة.

لكن الحاج محمد بوسالم يقول إن أغلب المغاربة يعتبرون الساعة من المقتنيات الحميمية، ومنهم من لا يقبل أن يعيرها إطلاقا. وهو يعرف من واقع عمله كساعاتي زبائن يملكون أكثر من ساعة من النوع الفاخر، كل ساعة مع لون من اللباس، وكل منها بتصميم ووظائف. كذلك يقول الحاج محمد إن من بين زبائنه، إلى جانب الفقراء، وزراء وسفراء وكثرة من الشخصيات المدنية والعسكرية، كلهم ما زالوا يترددون على محله.

ويضيف الحاج محمد أنه من خلال مزاولته لهذه المهنة منذ 66 سنة مع مختلف الزبائن، رجالا ونساء وشبابا، ما زال يحب عمله الذي كان مصدر رزقه في إعالة أفراد أسرته الكبيرة. ويشير هنا إلى أنه بعد تجربة الدار البيضاء، عمل في مدينة مكناس، بوسط المغرب، لفترة من الزمن، وفيها التقى بشريكة حياته التي أنجب منها 13 مولودا من الذكور والإناث. ويتابع أن المهنة أتاحت له إعالة أسرة تتكون من 26 فردا، وله اليوم 16 حفيدا من بينهم من كون بدوره أسرته. ومن مهنة الساعاتي أيضا اشترى منزلا في الرباط.

وفي معرض تذكره أسوأ حادث وقع له في ممارسة مهنة الساعاتية، يقول إنه ذات مرة ركب دراجته الهوائية حاملا ساعة جيب من ذهب إلى زبون وهو أحد أغنياء الدار البيضاء، ولما وصل إليه لم يجد الساعة في جيبه. فقد ضاعت الساعة الثمينة في الطريق، وعندها تسمر في مكانه لمدة. شيئان شفعا للساعاتي أمام ما جرى، هما سمعته الطيبة من جهة، وسماحة الزبون من جهة أخرى. ما عدا هذه الحادثة كانت باقي الوقائع والمفاجآت سارة.

اليوم يعتبر محمد بوسالم الساعاتي الأكثر شهرة في المغرب، وهو يقول باعتزاز إنه يعرفه زبائنه وزملاءه من وجدة شرقا إلى العيون جنوبا.. وهو الذي كان نقيب الساعاتيين في مدن الرباط وسلا وبوزنيقة والخميسات والقنيطرة وسيدي سليمان وسيدي يحيى الغرب.