«بيت عيسى» في قرية كرداسة المصرية.. ينافس التكنولوجيا بالسجاد اليدوي

يحتفظ بمكانته الرفيعة وسط القلق على مستقبل المهنة

قطع متنوعة الأشكال والألوان من السجاد يتهافت عليها السياح في كرداسة («الشرق الأوسط»)
TT

«بالطبع عليك الذهاب إلى بيت عيسى».. هكذا رد أحد المارة بتلقائية شديدة على أحد الباحثين عن مكان لشراء السجاد اليدوي الذي تتميز به قرية كرداسة بمحافظة الجيزة، غرب العاصمة المصرية القاهرة.

بيت عيسى هو موطن صناعة السجاد اليدوي في القرية التي يقصدها المصريون والأجانب على السواء لشراء ما يروق لهم من سجاد يُصنع خصيصا لهم وفقا للأشكال والخامات والألوان التي يفضلون ويطلبون. ويعود تاريخ بيت عيسى مع صناعة السجاد إلى منتصف الخمسينات حين شرع الحاج عبد الحميد في تصنيع السجاد اليدوي داخل بيته الصغير في كرداسة، وهو البيت الذي استمر في صناعة السجاد اليدوي عبر 4 عقود، قبل أن يرث أبناؤه محمد وأحمد ومحمود المهنة، ويطوروها عبر ورش لصناعة السجاد اليدوي. والآن تستمد عشرات المحال التصاميم المتميزة لبضاعتها من ورش بيت عيسى للسجاد اليدوي.

أكثر ما يميز إنتاجه السجاد المخصص للجدران، وهو ما يتهافت عليه السائحون الأجانب الذين يتوافدون على البيت، وسط عشرات المحال الأخرى التي تبيع السجاد والعباءات اليدوية، بالإضافة، طبعا، إلى منتجات السجاد الأخرى التي تتنوع وفقا للأنواع والأحجام وطريقة الصنع. فمعرض بيت عيسى الفسيح في الشارع السياحي يعرض كل أنواع السجاد وأحجامه.

وعلى الرغم من غزو المنتجات الصينية للسوق المصرية بأسعارها الرخيصة، فإن الحاج محمود عيسى متيقن من أنه «لم يؤثر على الزبون الذي يبحث عن المنتج المتميز». ويقول الحاج محمود لـ«الشرق الأوسط» خلال لقائنا به: «أفضل ما يميز السجاد اليدوي عن نظيره الآلي هو المرونة الفائقة في التصاميم التي لا يمكن للآلات تنفيذها». وأوضح علي محمد، فني سجاد يدوي، لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «يمكننا تنفيذ أي تصميم يطلبه الزبون، بعكس الصناعة الآلية التي تعجز عن تنفيذ بعض الرسوم المعقدة؛ لأنه يصعب على الآلة التعديل في تصميمها أثناء صناعتها». وكشف عن أنه ربما يبدو للزبائن أن وضع تفاصيل الوجه على سجادة أمر صعب وشديد التعقيد، متابعا: «إلا أن أسهل التصاميم هو تصميم الوجه؛ لأنه بسيط ومحدد وغير معقد بعكس تصاميم الغابات مثلا».

مراحل تصنيع السجاد اليدوي تبدأ بتجهيز الخامة ثم غزلها وتعقيمها وتجهيز الخيوط ثم صبغها بالألوان المستخدمة، ثم نسجها على النول وفقا للرسم المراد تنفيذه، ولا بد من تحضير النول نفسه على مدى ثقل السجادة المصنعة.

ويفتخر الحاج محمود بأن كل الخامات المستخدمة في صناعة سجاده من وحي البيئة المصرية. ويشرح أنه تتباين مدة صناعة السجاد اليدوي حسب حجم السجادة ونوعها، فالسجادة اليدوية الصغيرة (الدوبل) صناعتها سهلة للغاية ولا تستغرق وقتا كثيرا، وقد يصل الإنتاج الشهري منها إلى ألف متر، ويمكن لأكثر من عامل الشغل عليها. أما السجاد العقدة (المعقودة) فهو ذو طبيعة خاصة وهو أثقل وزنا وأكثر سمكا ويأخذ وقتا طويلا لتخرج السجادة في شكلها النهائي؛ إذ يعقد سنتيمتر واحد في اليوم، وقد تستغرق صناعة سجادة واحدة مساحتها 3 أمتار في مترين، أي 6 متر (600 سم) نحو سنتين من العمل المتواصل. وبلغت أكبر سجادة يدوية عقدة صنعت في بيت عيسى 60 مترا، وهو ما جعل مدة العمل بها تتجاوز 7 سنوات، وقد صُنعت خصيصا لقصر أمير خليجي بارز.

المثير أن الغلطة الواحدة في صناعة السجاد اليدوي تكلف الكثير من الوقت؛ لأنها قد تكلف القائم عليها حل كل العقد المنسوجة والبدء من جديد، وبالتالي لا بد من الدقة الشديدة في العمل. ويقول محمد عبد السلام (50 سنة)، عامل سجاد يدوي: «أعمل في صناعة السجاد اليدوي منذ 40 سنة، وأول درس تعلمته أن أكون دقيقا لأبعد حد ممكن، فما يميز السجاد اليدوي دقته أساسا».

لكن الأمور لا تسير على ما يرام دائما.. فالحاج محمد عنان، الذي يعمل في صناعة السجاد اليدوي منذ نعومة أظافره، يقول: «إن مهارة الحرفيين بالمهنة تراجعت كثيرا، نظرا لضيق أفق الشباب وسعيهم فقط وراء المادة.. فالعاملون في الورش الفنية لصناعة السجاد اليدوي لدى الحاج محمد عيسى رجال كبار تتجاوز أعمارهم الخمسين، وهم يعملون في المهنة منذ عقود». وبنظرة تملؤها الحسرة يقول أسامة أمين، عامل نول: «المهنة ستموت مع الوقت؛ لأن الشباب يعزفون عن التعلم، وكما ترى كلنا شيوخ كبار». ووافقه فورا معظم العاملين في الورشة التي تضم 8 عمال أغلبهم من كبار السن الذين شربوا تفاصيل المهنة عبر عقود ولا يجدون اليوم وريثا شرعيا لمهنتهم.

حتى الشباب المتحمس للمهنة فشل معظمه في اكتساب نفس المهارة والدقة البالغة اللتين يتحلى بهما الأساتذة، مما أثر كثيرا على إنتاجية العمل نفسه. ويوضح الحاج محمد عنان: «كنت أشتري 50 أو 60 مترا يوميا للعامل لإخراج السجاجيد الصغيرة والمطلوبة بشدة، لكن الآن لا أشتري أكثر من 10 أمتار».

مع هذا، يصدر بيت عيسى اليوم السجاد اليدوي لمعظم دول العالم، وينظم معارض لإنتاجه، وأسهمت هذه المعارض في نجاح بيت عيسى بتوريد سجاد يدوي لقصور نبلاء في سويسرا والنمسا، وشخصيات في مختلف دول الخليج، خاصة في المملكة العربية السعودية والكويت.

ومع أن الجيل الثاني من عائلة الحاج عبد الحميد عيسى يبدو قلقا على مستقبل المهنة على الرغم من أنه وسع أعمالها وبنى مصانعه وورشه الخاصة، فقد أثلجت صدر الحاج محمد كلمات ابنه عبد الله، الطفل ذي الـ10 سنوات، عندما قال لنا: «أتمنى أن أكون صانعا ماهرا للسجاد كوالدي وجدي، فهذه هي مهنتنا التي نفتخر بها ونعيش عليها».