«سوق البلاط» في العاصمة التونسية.. صيدلية طبيعية في خدمة البسطاء

مقصد الراغبين في الأعشاب الطبية منذ العهد العثماني

عمّار القابسي بين أعشابه الطبية بروائحها الأخاذة («الشرق الأوسط»)
TT

على مقربة من جامع الزيتونة المعمور في قلب العاصمة التونسية تونس يقع «سوق البلاط»، وهو سوق مخصص لبيع الأعشاب الطبية يرجع به التاريخ إلى العهد العثماني. ويرجح أن يكون بايات تونس (حكامها السابقون قبل إعلان الجمهورية) قد بعثوا السوق لصالح عائلاتهم وكل مرتادي البلاط - وهنا أصل التسمية - اعتبارا إلى كونه يقدم العطور والبخور وكل أعشاب الزينة والجمال، وهو سوق موجه إنتاجه بالخصوص إلى النساء، وهم أكثر زبائنه.

وعلى الرغم من تغير مختلف مكونات الأسواق في «المدينة العتيقة» بتونس، فإن «سوق البلاط» حافظ على ميزته لمدة قرون، وظل بمثابة الصيدلية الطبية المفتوحة على جميع الفئات الاجتماعية. إذ يقصده المرضى، لا سيما، المصابون ببعض الأمراض المستعصية ممن يبحثون عن أدوية تبعدهم عن شبح المواد الكيميائية التي تحتويها الأدوية المصنعة. كذلك، فإن الأسعار الزهيدة المميزة في السوق قد تكون وراء الإقبال الهائل على مختلف أعشابه ووصفاته العجيبة، وعلى صموده في وجه مرور الأيام على الرغم من مظاهر الشيخوخة التي طبعت بعض الأسواق الأخرى القريبة منه.

«سوق البلاط» يعد حقا من أشهر الأسواق التقليدية في تونس العاصمة، ففي الأزقة المؤدية إليه تتسلل الروائح الطبيعية من أعشاب وعطور وبخور، فترسخ في الأذهان أصالة المكان ومكانته التاريخية. ثم إن أصحاب الدكاكين أنفسهم يعيدون الزائرين إلى الماضي، فالبعض منهم يعمل دون كلل ولا ملل هناك منذ ما يقرب من 60 سنة متصلة، مما جعل علاقاتهم مع بعض العائلات متواصلة منذ عقود. ويدرك بعض التجار بخبرتهم طلب الزائر، وقد يعمدون في بعض الأحيان إلى تشخيص العلة، مما يجعلهم في بعض الحالات يتحولون إلى مرحلة التطبيب.

ومن ناحية أخرى، يشرح بعض التجار المتمرسين في المهنة عن أصول المهنة والخبرة التي اكتسبوها، فيرجعون الأمر إلى كتب الطب النبوي ودرر الرازي وابن سينا وغيرهم من المؤمنين بطب الأعشاب وأهميته الصحية والاجتماعية وكذلك النفسية. وهم يقولون إن لكل نبتة من الأعشاب الطبية موسمها وتأثيراتها العلاجية، ففي فصل الربيع تتوفر زهور «البوخريش» والريحان وأغصان الذرو ونوارة «الخبيزة»، أما في فصل الشتاء فنجد أعشاب «الفيجل» و«ست مريم» و«أم الروبيا» و«الكف الأجدل».

ثم في فصل الخريف هناك مجموعة أخرى من الأعشاب الطبية ترى النور، فتتوافر في «سوق البلاط» أعشاب «الكاراشون والزريقة والحريقة والقريصة». وطبعا، للصيف أعشابه هو كذلك فنجد في السوق أعشاب الزعتر والإكليل و«السدرة» والقمام (زهور الريحان) والشيح والقنطريون (لعلاج الكولسترول).

في هذا الإطار، يقول الشيخ عبد الرزاق بحر، صاحب أقدم «صيدلية» في «سوق البلاط»، إن دكانه يحتوي علاجات لمختلف العلل.. من داء المفاصل إلى أوجاع المعدة والسعال، منها ما يعطى للأطفال الصغار ومنها ما هو مخصص للكبار فقط. وعن هذه الأعشاب العجيبة يقول بحر لـ«الشرق الأوسط» إن «الشيح والزعتر والإكليل صالحة تماما لمرضى ارتفاع ضغط الدم وكذلك السكري. ويقول إن بإمكانه تحديد المقادير ومدى تأثير النبتة على العليل، وأنه يتعامل مع مرضاه تماما مثل تعامل الأطباء مع مرضاهم. وللتأكيد على أهمية ما يقوم به من عمل لصالح الناس، يعرض علينا الشيخ عبد الرزاق مجموعة من الشهادات الجامعية المؤطرة التي علقها على حيطان الدكان. وهو يؤكد أن زبائنه من مختلف الشرائح الاجتماعية ومن شتى المستويات، وهم لا يضلون طريقهم إليه على الرغم من كثرة الأنهج والأزقة والمسالك التي تتشابك وتتفرع داخل «المدينة العتيقة»، وتتشابه إلى درجة تجعل إمكانية التيه واردة جدا. غير أن بحر يعترف بأن «سوق البلاط» هو «سوق الزوالي» (عبارة تونسية تعني صاحب الدخل الضعيف).. فبسعر نصف دينار (الدولار الأميركي يساوي نحو دينار ونصف دينار تونسي) يمكنك أن تحصل على دواء يكلف عشرات الدنانير في الصيدليات».

داخل دكان عبد الرزاق بحر تستطيع تأمل أسراره، والفوضى العجيبة التي تميزه عن غيره من الدكاكين، غير أن صاحبه يسر لمن يحدثه بـ«أن أعشاب وأدوية الصين تزحف على سوق البلاط، والخوف كل الخوف أن تتراجع الأعشاب المحلية، المعروفة بنجاعتها الصحية - كما يقول - وتترك المكان لأدوية قد لا تكون بالنجاعة ذاتها». ولا يخفي بحر، في المقابل، استيراده بعض الأعشاب من الخارج، ويذكر كأمثلة «السنامكي» و«الحبة السوداء» التي يستوردها من المملكة العربية السعودية، «البابونج» من المغرب وإسبانيا، إلى جانب نبتة «بنت السلطان» (لمعالجة مرض السمنة) و«اللوك» من سوريا، و«الزنجبيل» و«الزعفران» من إيران، و«زبد البحر» (لعلاج بعض الأمراض الجلدية) من أفريقيا.

على صعيد آخر، يكن عمار القابسي حبا دفينا لـ«سوق البلاط». فقد جاءه من مدينة قابس (نحو 500 كلم جنوب العاصمة التونسية) منذ عام 1964، وبات جزءا لا يتجزأ منه. وينظر القابسي إلى محدثه ويبوح له بكلام راجيا إياه أن ينشره ويصر على ذلك. ومنه أن «عائلة الطرابلسية (نسبة إلى ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي) أغلقت عشرة محلات في سوق البلاط وحولتها إلى دكاكين لبيع الإلكترونيات الصينية والتايوانية.. ومن يتجرأ على الكلام يكون مصيره الضرب والسجن والنفي من السوق». ثم يتابع - وهو مستبشر هذه المرة - «الله موجود، ذهب الظلمة وبقينا صامدين في هذا المكان».

وتحدث عمار عن عالم الأعشاب، فقال «الربيع هو صانع العجب في الطبيعة. فأكثر الأعشاب تتكاثر في هذا الفصل، وهي منتشرة على كامل مناطق تونس، ولا يظنن أحد منا أن الأعشاب موجودة فقط في السهول والجبال.. بل إن البعض منها موجود في أقسى أنواع المناخ بالصحراء. وتتميز الأعشاب الطبية التونسية بأنها أعشاب طبيعية، وثمة عائلات تجمعها من مختلف مناطق تونس ولقد توارثت عادة جمع الأعشاب الطبية من منابتها الأصلية، تماما كما توارث المهنة تجار سوق البلاط».

وحول فاعلية هذه الأعشاب في علاج الأمراض، قال عمار: جزء أساسي في أهمية هذه الأعشاب أنها غير مضرة وغير سامة.. وهي في كل الأحوال تجلب منافع صحية لمستعملها، إلا أن تجار سوق البلاط يدركون أهمية كل نبتة. وعلى سبيل المثال، نبتة «النونخة» المجلوبة من منطقة عين دراهم (180 كلم شمال غربي تونس) مميزة في علاج الحجر في الكلى، وحبات الحنظل تستعمل في معالجة «البرد وأمراض المفاصل»، وبإمكان نبتتي «الزعتر والإكليل» تعويض مشروب «السيرو» في الصيدليات.

وتابع عمار القابسي مستطردا «.. ومن غرائب ما يحدث في سوق البلاط أن حتى بعض الأطباء يزورون السوق بين فترة وأخرى، ربما للاطلاع، وربما أيضا، للاستفادة من خبرة تجار السوق الذين تحول كثيرون منهم، بمرور الزمن، إلى ما يشبه الأطباء من دون أن يدركوا أهمية ما يقدمونه من معلومات حول الأعشاب ومفعولها الصحي المتنوع».