سوق الشورجة في بغداد تريد استعادة مكانتها الرمضانية

أقدم مركز تجاري في العاصمة والبلاد.. شيدت في أواخر الحكم العباسي

السوق دخلها أناس من أماكن كثيرة حول العالم بينهم هنود وصينيون وسودانيون وجنوب أفريقيين
TT

يضرب أبو عصام كفه على رجله وهو يستعيد ذكريات العقود الأربعة التي قضاها بين دكاكين الشورجة، أقدم سوق في بغداد، تكافح العنف والحر وغلاء الأسعار لاستعادة مكانتها التاريخية والرمزية في شهر رمضان. وبينما يحاول ابنه محمد إعادة تشغيل مروحة هندية الصنع في وسط السقف تعود إلى 1934، يثبت الرجل السبعيني بصره على أكياس التوابل والأرز الموزعة على زوايا دكانه المتواضع ويقول لوكالة الصحافة الفرنسية «رمضان كان يبدأ من هنا».

وتحتل سوق الشورجة التراثية والشعبية منذ تشييدها أواخر العهد العباسي، مكانة رمزية في ذاكرة العراقيين وخصوصا أهالي بغداد، لأنها أقدم مركز تجاري في العاصمة والبلاد. وتقع السوق في منطقة تاريخية وسط المدينة قرب جامع الخلفاء الذي بني في القرن العاشر وتتفرع منه عدة أسواق متخصصة، منها سوق الصابون وسوق التوابل، إلى جانب أكثر من عشر خانات وأربعة مساجد.

ويقول مؤرخون عراقيون إن كلمة «الشورجة» تعني الماء والملح، فيما يرى آخرون أن الكلمة تعني النهر المالح، أو حتى دهن السمسم.

ويروي صاحب أحد المحلات الصغيرة بعدما رفض الكشف عن اسمه خشية «الملاحقة الأمنية التي قد تصل إلى القتل»، أن «اليهود كانوا أول من أدار السوق، بمساعدة عائلات من أديان أخرى». ويشير إلى أن «الشورجة حافظت على شكلها العام ولم تغيره بسبب محدودية العمل العمراني فيها وانعدام أعمال الترميم». ويتابع أن «السوق دخلها أناس من أماكن كثيرة حول العالم، بينهم هنود وصينيون وسودانيون وجنوب أفريقيين».

وشهدت المنطقة التي تضم السوق في الأعوام التي أعقبت اجتياح العراق عام 2003 معارك ضارية بين قوات عراقية وأميركية من جهة وعناصر تنظيم القاعدة الذين كانوا يتحصنون في منطقة الفضل المجاورة، مما أدى إلى إغلاق الشوارع المؤدية إلى السوق عام 2007، في أوج العنف الطائفي.

ومع تحسن الوضع الأمني، أعادت السلطات العراقية في الأول من أغسطس (آب) 2010 فتح شارع الجمهورية الذي يحتضن السوق ويمتد من ساحة الخلاني (وسط) إلى منطقة باب المعظم (شمال). ولا تزال الحواجز الإسمنتية التي وضعت على جانبي الشارع لحماية المتسوقين من انفجار السيارات المفخخة، تحيط بجانبي الطريق على امتداد السوق.

ويقول أبو عصام وهو يراقب عربات نقل البضائع التي تجرها الحمير والخيول وهي تتسابق على دخول الأزقة الضيقة: «أعمل في هذه السوق منذ 1956. كنت أبيع وأشتري الأرز والحبوب، ولم أغير عملي حتى اليوم».

ويضيف أن «الشورجة كانت ملاذ الناس من كل أنحاء العراق، وخصوصا في شهر رمضان. أما اليوم فالسوق تعيش في زمان تحديات الأمن وغلاء الأسعار التي يتحكم بها المستوردون ويرفعونها عند بداية شهر رمضان من كل عام». ويستذكر قائلا: «قبل سقوط النظام، كانت الحركة لا تتوقف ولو لدقيقة واحدة خلال شهر رمضان».

ويتوزع المتسوقون من رجال ونساء على مختلف فروع السوق، ويتنقلون وسط صراخ الباعة الذي لا يهدأ وضجيج العربات التي لا تنتهي، بحثا في أول أيام رمضان عن التوابل الملونة التي يعبق المكان بروائحها والمواد الغذائية والأدوات البلاستيكية والكهربائية. ويسير هؤلاء فوق أرض متعرجة، وتحت سقف مهدم في معظمه لا يقيهم سطوة الشمس التي بلغت معها حرارة الطقس خمسين درجة مئوية، مما يدفع العديد من زبائن السوق إلى البقاء في منازلهم، وفقا لأحد أصحاب المحلات. ويقول الأستاذ الجامعي أحمد عاصم الدباغ، إن «الأسعار ارتفعت كثيرا، وتزداد الآن مع بداية شهر رمضان».

ويضيف الدباغ وهو يعدل في قبعة يعتمرها «لكن الشورجة تبقى رغم ذلك رمزا تجاريا يحمل ذكريات وطقوسا جميلة. أغلب أهالي بغداد يزورون السوق مرتين على الأقل في الأسبوع».

وفيما يهم المدرس شهاب أحمد مغادرة دكان وهو يحتج بصوت منخفض على «الغلاء وغياب ماء الشرب والكهرباء في شهر الصوم»، تصرخ امرأة مطالبة رئيس الوزراء نوري المالكي «بعمل إنساني في هذا الشهر الفضيل». وتقول والعرق يغطي جبينها: «نريده أن يساعد في موضوع الكهرباء، رمضان بدأ فكيف نصوم بلا ماء ولا كهرباء؟». وتضيف: «هذا ليس رئيس وزراء، هذا رئيس بخلاء».

ورغم مرور سنوات على سقوط النظام السابق، يعاني العراق من نقص كبير في الخدمات خصوصا شحة مياه الشرب والانقطاع شبه الدائم للكهرباء التي لا تزيد ساعات التغذية بها عن الثماني في أفضل الحالات في معظم أنحاء البلاد.

ويقول أبو عصام إن «هذه السوق تختصر الأحداث الأليمة التي مر ولا يزال يمر بها العراق، منذ انتهاء عهد الملكية (عام 1958)، وحتى سقوط النظام السابق عام 2003، وصولا إلى الأعوام التي أعقبت ذلك». ويتابع بحسرة: «عندما أصبحنا جمهورية تدمرت البلاد، وعندما اجتيح العراق تدمرت النفوس».